النص الرابع :
لمن أعيش ؟
أعيش للإسلام والجزائر
قد يقول قائل : إنّ هذا ضيق في النّظر، وتعصب للنفس، وقصور في العمل، وتقصير في النفع. فليس الإسلام وحده دينا للبشرية، ولا الجزائر وحدها وطن الإنسان ، ولأوطان الإنسانية كلها حق على كل واحد من أبناء الإنسانية، ولكل دين من أديانها حقه من الاحترام.
فأقول : نعم إنّ خدمة الإنسانية في جميع شعوبها ، والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها – هو ما نقصده ونرمي إليه ، ونعمل على تربيتنا و تربية من إلينا عليه ، ولكنّ هذه الدّائرة الإنسانية الواسعة ليس من السهل التوصل إلى خدمتها مباشرة و نفعها دون واسطة ، فوجب التفكير في الوسائل الموَصِّلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع.
ونحن لمَّا نظرنا في الإسلام، وجدناه الدين الذي يحترم الإنسانية في جميع أجناسها ، فيقول: ( لقد كرمنا بني آدم ) ويقرِّر التَّساوي و الأخوة بين جميع تلك الأجناس ، ويبين أنهم كانوا أجناسا ، لا للتفضيل ، وأن التفاضل بالأعمال الصالحة فقط ، فيقول: ( يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا . إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
ويدعو تلك الأجناس كلها إلى التعاطف و التراحم بما يجمعها من وَحدة الأصل ووشائج القرابة القريبة والبعيدة فيقول : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) .
و يقرِّر التضامن الإنساني العام بأن الإحسان إلى واحد إحسان إلى الجميع ، والإساءة إلى واحد إساءة إلى الجميع ، فيقول : ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ). ويعترف بالأديان الأخرى ويحترمها ويسلم أمر التصرف فيها لأهلها: ( لكم دينكم و لي ديني ) ، ويقرر شرائع الأمم ويهوِّن عليها شأن الاختلاف ويدعوها كلها إلى التسابق في الخيرات فيقول: ( لكلًّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم ، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم به تختلفون ) ، ويؤمن بالعدل العام مع العدو والصديق ، فيقول : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاَّ تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ، ويحرم الإعتداء تحريما عاما على البغيض والحبيب ، فيقول:
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدُّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ). ويأمر بالإحسان العام ، فيقول : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) ويأمر بحسن التخاطب العام: ( وقولوا للناس حسنا )
فلما عرفنا هذا و أكثر من هذا في الإسلام . والدين الذي فطرنا الله عليه بفضله – علمنا أنه دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولا سعادة إلا به، وأن خدمتها لا تكون إلاَّ على أصوله، وأن إيصال النفع إليها لا يكون إلاَّ من طريقه ، فعاهدنا الله على أن نقف حياتنا على خدمته ونشر هدايته، وخدمة كل ما هو بسبيله ومن ناحيته . فإذا عشت له فإني أعيش للإنسانية بخيرها وسعادتها في جميع أجناسها وأوطانها ، وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها، وما كنَّا لنكون هكذا إلاَّ بالإسلام الذي ندينُ به ونعيش له ونعمل من أجله .
فهذا – أيها الإخوان – معنى قولي : ( إنني أعيش للإسلام )
أما الجزائر فهي وطني الخاصُّ الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص وتفرض علي تلك الروابط لأجله – كجزء منه – فروضا خاصة ، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة ، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة . وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملا وجدتني في حاجة إليه: إلى رجاله وإلى ماله وإلى حاله وإلى آلامه وإلى آماله ، كذلك أجدني إذا عملت ، قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إلية . هكذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال .
وهكذا أحسب أن كل ابنِ وطنٍ يعمل لوطنه لا بدّ أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرةِ وهذا الاتصال .
نعم أن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا ، هي دائما منَّا على بالٍ ، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لا بد أن نكون قد خدمناها ، وأوصلنا إليها النفع والخير من طريق خدمتنا لوطننا الخاص .
وأقرب هذه الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى و المغرب الأقصى ، اللذان ما هما والمغرب الأوسط إلا وطن واحد و لغة وعقيدة وآدابا و أخلاقا و تاريخا ومصلحة ثم الوطن العربي ولإسلامي ، ثم وطن الإنسانية العام. ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر . وما مثلها في وطننا الخاص – وكل ذي وطن خاص – إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة .
فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من جميع البيوت قرية سعيدة راقية ، ومَن ضيّع بيته فهو لما سواها أضيعُ. و بقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقَّى القرية وتسعدُ، و بقدرِ إهمال كل واحد بَيتَهُ تشقى القرية و تنحطُّ.
فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها و لا للإضرار بسواها – معاذ الله – ولكن لننفعها و ننفع ما اتصل بها من أوطانٍ الأقربَ فالأقربَ.
هذا – أيها الإخوان – هو مرادي بقولي: ( إنني أعيش للجزائر ) ، والآن – أيها الإخوان – وقد فهمتموني وعرفتم سمو فكرة العيش الإسلام والجزائر ، فهل تعيشون مثلي للإسلام والجزائر؟
- نعمْ ! نعمْ ! بصوتٍ واحدٍ.
- فلْنقُلْ كلنا :
ليحيا الإسلام ، لتحيا الجزائر عبد الحميد بن باديس
عمل تطبيقي• حلل النص تحليلا أدبيا ، معتمدا الخطوات التالية :
- تحديد أفكار النص ، مع التحليل
- ادرس أسلوب النص
- أبرز قيمة النص ومكانته