علاقة الدلالة بعلم الصرف (الدلالة الصرفية)
بالرجوع إلى المستوى الصرفي من مستويات البنية اللغوية نذكر أن عناصر هذا المستوى هي (المفردات أو الكلمات أو الوحدات الدالة) التي تنشأ من جمع الأصوات (الوحدات غير الدالة) بصورة اعتباطية (مع التحفظ هنا على هذه الاعتباطية) ليكون لدينا وحدات لها دلالة مفردة (بالوضع) كما ذكر الزمخشري في كتابه (المفصل). هذه الوحدات ذات الدلالة المفردة تأخذ أشكالا صرفية مختلفة و هي التي تسمى الصيغ الصرفية ، ولكل صيغة دلالة معينة بالإضافة التي دلالة المادة الصوتية التي تتشكل منها. فللأأسماء والأفعال والأوصاف (المشتقات المختلفة) دلالة إضافية تحددها الصيغة. فلكل فعل من الأفعال (الماضي، المضارع والأمر) و بصورها المختلفة (المجردة و المزيدة ) هيئة صرفية تدل على المعنى أو على جزء من المعنى . مثل: فعل، يفعل، افعل، استفعل، تفاعل... وكذلك فاعل، مفعول، مفعل، مفعل، فعال، مفعال.
و قد تدل صيغة واحدة على عدة معان يحددها السياق، مثل صيغة اسم الفاعل و المفعول.
(مختار) ، بضم الميم ، المتحولة من البنيتين العميقتين: مختير و مختير، بفتح الياء في الأولى وكسرها في الثانية ،و من ذلك الصيغة التي تدل على اسم الزمان و المكان و اسم المفعول و المصدر الميمي (مسعى) على وزن مفعل ، ومن ذلك أيضا : الفعل ضاع يضوع ،التي تدل على الظهور والاختفاء و ندرك ذلك بالرجوع إلى المضارع: ضاع يضيع و ضاع يضوع ،وكذلك رام يروم و يريم (حلمي خليل مقدمة لدراسة فقه اللغة ص 182).
إن علم الصرف الذي يدرس هذه الصيغ (هذه الوحدات) التي تعد من المفردات على الرغم من أنها قد تتألف من أكثر من وحدة دالة حسب مبدأ تحديد الوحدات الدالة بناء على المعنى، أقول إن علم الصرف هنا يتقاطع مع علم الدلالة لأن الأصل في تصريف الصيغة الأولى إلى صيغ مختلفة الحاجة إلى الدلالات المختلفة التي نحتاج إليها ضمن النظام اللغوي لتؤدي اللغة وظيفتها بشكل كامل و دقيق.
حصة تطبيقية حول علاقة علم الدلالة بالمستوى الصرفي
النص يقول ابن جني في " باب في الدلالة اللفظية والصناعية والمعنوية " : اعلم أن كل واحد من هذه الدلائل معتد مراعى مؤثر إلا أنها في القوة والضعف على ثلاث مراتب ، فأقواهن الدلالة اللفظية ثم تليها الصناعية ثم تليها المعنوية ولنذكر من ذلك ما يصح به الغرض فمنه جميع الأفعال ، ففي كل واحد منها الأدلة الثلاثة ، ألا ترى إلى قام ودلالة لفظه على مصدره ودلالة بنائه على زمانه ودلالة معناه على فاعله ، فهذه ثلاث دلائل من لفظه وصيغته ومعناه ، وإنما كانت الدلالة الصناعية أقوى من المعنوية من قبل أنها وان لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ ويخرج عليها و يستقر على المثال المعتزم بها ، فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى اللفظ المنطوق به ، فدخلا بذلك في باب المعلوم والمشاهدة و أما المعنى فإنما دلالته لاحقة بعلوم الاستدلال وليست في حيز الضروريات ".
الخصائص ج3 ص98
المطلوب : حلل النص ، واستخرج أهم المفاهيم الدلالية المتضمنة مع التمثيل .
التحليل : أبرز ابن جني في هذا النص أنواع الدلالات في الكلمة الواحدة، بحيث فصل بينها وجعلها مستقلة عن بعضها البعض وصنفها حسب قوتها مبتدئا بالأقوى دلالة وهي الدلالة اللفظية ثم الدلالة الصناعية وأخيرا الدلالة المعنوية . ثم بين أن الأفعال تشتمل على هذه الأنواع من الدلالات مجتمعة.
أ ـ الدلالة اللفظية : عرفها ابن جني بقوله أنها "دلالة لفظه على مصدره" ، وهو يقصد دلالة الجذر .
ويوضح لنا الأمر بمثال هو الفعل قام ودلالة لفظه هي دلالة جذره أي الجذر (ق، و، م ) الذي يدل على حدث يختلف عن معنى الجذر ( س ، م ، ع ) مثلا ، فلكل جذر إذن دلالة خاصة به تميزه عن جذر آخر.
ب ـ الدلالة الصناعية : عرفها ابن جني بقوله أنها " دلالة بناء الفعل على الزمن " ، ويقصد بها دلالة الوزن أو الصيغة الصرفية . فالكلمة في اللغة العربية تتكون من الجذر + الوزن ،و لكل وزن دلالة خاصة به ،إذ نجد مثلا أن كلمتي (قام ومقام ) تشتركان في نفس الدلالة اللفظية وهي دلالة الجذر (ق ، و ، م) لكن معناهما مختلف نتيجة تباين وزنيهما مما ينتج عنه تباين في معنى كل وزن :
ـ فوزن قام هو ( فعل ) الذي يدل على حدث القيام في الزمن الماضي
ـ ووزن مقام هو( مفعل) الذي يدل على معنى اسم المكان
يتبين لنا أن الصيغ الصرفية تلعب دورا كبيرا في الدلالة على معنى الكلمة .
فصيغ الأفعال بأنواعها : الماضي والمضارع و الأمر تدل على الحدث وزمانه ،وما يتصل بهذه الأفعال من حروف وما يدخلها من التضعيف ، فتضعيف العين مثلا يدل على قوة الحدث وكثرته مثل : اخضر واخضوضر .
وتحمل صيغ الأسماء العديد من المعاني التي تتنوع بتنوعها ، كأسماء الفاعلين وأسماء المفعولين وصيغ المبالغة والتصغير والنسب والجموع ، فلكل منها معنى تؤديه .
ويمكننا التعرف على معاني تلك الأوزان بالرجوع إلى كتب الصرف .
ج ـ الدلالة المعنوية : عرفها ابن جني بقوله "دلالة معناه على فاعله " أي دلالة فاعل الفعل.
فالدلالة المعنوية للفعل ( قام ) هي الفاعل الذي قام بالفعل ( هو ).
والدلالة المعنوية في الاسم (قافلة ) هي : قافلة ، سيارة ، كواكب ... أي مختلف المعاني الأصلية ، والمجازية .
يمكن أن نمثل لمختلف تلك الدلالات بالشكل التالي :
ملاحظة : لا نجد كل هذه الأنواع من الدلالات إلا في الأسماء المتمكنة والأفعال المتصرفة .
تمرين : 1 ـ بين أنواع الدلالة التي تتضمنها الكلمات التالية حسب تقسيم ابن جني لها :
1ـ هاتف ، 2 ـ صه ، 3 ـ من ، 4 ـ نعم ( بكسر النون وتسكين العين ) ، 5 ـ يسلم .
2 ـ ما المعنى المستفاد من الصيغ المتقابلة التالية ( استعن بالمعاجم العربية ) :
أ ـ القوام ( بكسر القاف ) والقوام (بفتحها)
ب ـ الذل ( بكسر الذال ) والذل ( بضمه )
ج ـ حاسوب ، حاسب
الدلالة وعلم التراكيب (الدلالة النحوية)
يقول الجرجاني عبد القاهر في كتابه المشهور (دلائل الإعجاز في علم المعاني) : (إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها و لكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد .....) (دلائل الإعجاز ص353).
إن ما يقال من أن الوحدات الدالة في المستوى الصرفي تتشكل من تجمع لعناصر من الوحدات غير الدالة (الأصوات) دون صدور ذلك عن نظام عقلي (إن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط....) (انظر دلائل الإعجاز ص353).( مع التحفظ على ذلك). فان ذلك لا ينطبق على تشكيل الجمل من الوحدات الدالة و إنما يتم ذلك بالتآلف بين هذه الوحدات فيأتلف بعضها و لا يأتلف بعضها الآخر، كما يذكر الجرجاني نفسه في كتابه الجمل (اعلم أن الواحد من الاسم و الفعل و الحرف يسمى كلمة، فإذا ائتلف منها اثنان فأفادا ( ...) يسمى كلاما ويسمى جملة ( الجمل ص107) .
وعلى هذا تكون الإفادة ليس معنى المفردات في حد ذاتها . و هو ما يوضحه في قوله السابق في الدلائل.
وإنما الإفادة هنا في هذا المستوى (مستوى التراكيب) أو المستوى النحوي هو تعريف المخاطب (بفتح الطاء ) و إبلاغه بالعلاقات النحوية أو ما يسمى بمعاني النحو، و هو المعنى الاسنادي الذي يربط بين الوحدات داخل التركيب فيفهم من الذي قام بالفعل أو اتصف بالوصف و على من وقع هذا الفعل، و مع ترابط عناصر التركيب بما في ذلك الملحقات مثل الحال و التمييز و غيرها، حيث يوضع كل عنصر في موضعه المناسب لصحة المعنى، وإلا لن يفهم المخاطب ، بفتح الطاء ، (السامع) أي معنى مع أنه من المفترض أنه يعرف المعاني المفردة للألفاظ و إنما المعنى المقصود هنا هو معنى النحو، أو الوظائف النحوية. و يرى الجرجاني أن ذلك النظام يقوم على ربط الكلمات ببعضها يقول " ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق بل أن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها ، على الوجه الذي اقتضاه العقل (ص35) .
وكان الجرجاني قد ضرب مثلا ببيت امرئ القيس ـقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ـ فقال
ما معناه أننا لو غيرنا ترتيب الكلمات فهل يعني قول امرئ القيس مبينا بعد ذلك .
وقد عدّ بعضهم الجملة (التركيب) هي الوحدة الدلالية الأساسية.
وهذا لا يعني –طبعا- أن المعاني المعجمية (الاجتماعية) بمعزل عن فهم المعنى لأن اللغة تعمل بنظام متفاعل تتداخل فيه المستويات ، و يظهر ذلك عند تشو مسكي فيما يسمى مبدأ السلامة النحوية ، ويضرب لذلك الأمثلة ، فقد يكون التركيب سليما نحويا من حيث الإسناد، ولكنه لا يؤدي للمخاطب (بفتح الطاء ) معنى صحيحا مثال ذلك : (شرب الجدار النجمة المؤمنة) . و إنما قد يكون ذلك فيما يسمى باختراقات الشعراء مثل. ( شربتني قهوتي ) .
وإذا كنا قد ركزنا هنا على الجرجاني فلأنه ركز على العلاقة بين النحو والبلاغة أو الإبلاغ وليس الإبلاغ إلا نقل المعاني و تبادلها بين المخاطب ( بفتح الطاء ) والمخاطب (بكسر الطاء ) . ومن هنا كان لعلم الدلالة علاقة متينة بعلم النحو فليست اللغة إلا مجموعة من العلاقات بين الألفاظ و دلالاتها ، وهذا ما تؤكده كثير من المذاهب اللسانية الغربية الحديثة.