نظريّة المَلَكة اللُّغوية: معرفة الإنسان الضمنيّة بِاللّغة (قواعدها التي تتمّ بِها عمليّةُ التّكلُّم).
نظريّة الأداء اللُّغويّ.
نظريّة اكتِساب اللُّغة (خاصّةً عِندَ الطِّفل).
فَالنّظريّة الأولى يَنبغِي أنْ تَحتوي وصفَ مختلف العناصِر المُفسِّرة لِلمَلَكة اللُّغويّة بِاعتِبارها جملةً مِن المَعارِف اللُّغويّة الّتي استنبَطها المُتحدِّثُ بِأيّة لُغة ، والّتي يَتمكّن عن طريقِها مِن بِناء واستيعاب ملفوظات لُغتِه. فهذه النّظريّة مِن شأنِها أنْ تُخبِرنا عن كلِّ القواعِد والوحدات والضّوابِط الّتي يتضمّنها نَحْوُ تِلك اللُّغة ، وتوصَف بِداخِلها مختلفُ المُستويات اللُّغويّة الفنولوجيّة ، المعجميّة ، التّركيبيّة والدّلاليّة
تَستعِين النّظريّة الثّانية ـ تحت ضُغوطٍ عِلميّة ولِدواعٍ عِمليّةٍ كذلِك ـ بِالتّجريد العقليّ المَحْض، أنْتج مَفاهيمَ مُجرَّدة مِثل: المُتحدِّث المِثاليّ والمُستمِع (المُخاطَب) المِثاليّ ، ويتجسّدان كنَموذج في فردٍ واحِد، ويُصرَف ـ حسب النّظريّة التشومسكيّة ـ إلى مُتحدِّثٍ مُستمِعٍ مِثاليٍّ ، لكن السّؤال الّذي يَطرَح نفسَه هو: هل يمكِن تحقيقُ في الواقِع هذا الفرد النّموذج ؟
إنّ الإنسان الذي قد اكتسب لغة ما، قادرٌ على أن ينتج جملَها وأن يتفهّمها، وهو أيضً قادرٌ على أن يحكم من خلال حدسه اللّغويّ على أصولية هذه الجمل . إذا أردت تعليمَ الطِّفلَ الحديث فلا تعتمِد كثيرًا التّنميط بواسطة الشّواهِد وتقييده بالمشهورة الّتي هدفها التّحفيظ. فهذا تجميد أكثر ممّا هو حمل على الإبداع، فلا بدّ أن يُعمَل التّفكير أكثر مِن التّذكير. وفق دلاليّة الطّرازيّة (الأصنافيّة) فهل الفِعل (جاء) كيّانٌ فرديٌّ أم هو مقولة جامِعة مانِعة ؟ فإذا أردنا القيّام بفعلٍ مثل (غنّى) فمقولة الفِعليّة (الحدثيّة) هي الّتي تكون قد فُعِّلت .
إنّ ممارستنا للّغة لا يُعدُّ نشاطًا تحليليًّا للّغة نفسها ولا مرتكِزًا على الشّعور أثناء إنتاجه. وإذا أمكن لنا ذكر الحدس الذّي بؤرته اللّغة، سيّما إذا كان الأمرُ يتعلّق بلغة الأمّ، فنجد الممارسة (سواء أثناء الإنتاج أم التّلقّي) متوفِّرة على الفور، مِن غير تدخّل التّحليل أو التّعليل . فالممارسة هنا أشبه ما تكون بالانقيّاد.
ثمّة مظهرٌ عظيم الشأن لمسار الاندماج الاجتماعيّ لدى الطّفل يقوم على اكتساب اللّغة التي تمكِّنه من التواصل مع غيره من أبناء المجموعة اللّغويّة التي ينشأ فيها: وهو المظهر الإبداعيّ، ولم يفت تشومسكي الالتفات إلى هذه المهمّة الخطيرة والممكِنة في الوقت نفسه إذ تجاوب معها تجاوبًا أثَّر في وعيه بكبر شأنها تأثيرًا قويًّا على تطوّر جوانب النحو التوليدي وتكاملها وانسجامها. بالتأكيد إنّ النظريّة اللّغويّة ، عند تشومسكي، لا بدّ أن تُنبئَ بإمكانية تعلّم الطّفل، في ظرف سنوات معدودة، كيفيّة تمييزه بنى لغة أمّه النحوية عن غيرها. يذكر في إشارات عديدة وجود استعداد طبيعيّ وبيولوجيّ لاكتساب اللّسان تحدّد عدد الاختيارات التي تَمْثُل للطّفل عند اكتسابه للغة معيّنة. وهو ما يحمل على الاعتقاد بإمكان وجود نحو عالميّ يتحكّم في ذلك
« إنّ هذا المظهر الإبداعيّ في استعمال اللّغة يتّصف بالمميّزات التّالية :
1- إنّ الاستعمال الطّبيعيّ للّغة هو استعمال تجديديّ وبمعنى آخر إنّ ما ننطق به، غالبا، في استعمالنا اللّغة استعمالا عفويّا هو ممّا لا شكّ فيه تعابير متجدّدة وليس ، بالتّالي ، ترديدا لما سبق أن سمعناه.
2- يمكن القول ، بكثير من التّأكيد ، إنّ استعمال اللّغة لا يخضع لأيّ مثير ملحوظ ، خارجيّا كان أو داخليّا ، بل هو متحرّر من كلّ ضابط. وفي ضوء هذه الملاحظة تعتبَر اللّغة أداة الفكر والتّعبير الذّاتيّيْن.
3- يُظهِر الاستعمال تماسك اللّغة وملاءمتها ظرف التّكلّم. والحقّ أنّ هذا التّماسك هو أحد مظاهر الكفاية اللّغويّة ، إذ إنّ ما من تحليل آليّ يستطيع ، في تقديرنا ، تحليل هذا التّماسك الّذي نُلاحظه في اللّغة »
2.2.1 التواصل بين المقاربة اللّفظيّة والمقاربة المفهوميّة :لمّا كان التعبير محمولاً على أن يخضع للقوانين اللّغويّة ويتحقّق تحت إلحاح التواصل فلا يفوتنا التنويه هنا بما يُدعى المقاربة اللّفظيّة (Approche sémasiologique) ، وهي التي تَهتمُّ بالكلِمات ـ مِن مَنظور نظريّة التواصل ـ وفي حُدود مَسعاها إلى تبريرِ المَلَكة المعجميّة (الإفراديّة) الّتي يَنطوِي عليها كلُّ مُتحدِّث. بيْنما تُولي المقاربة المفهوميّة (Approche onomasiologique) لِوحدتِها الأساسيّة (المفهوم) أهميّةً قصوى في إطار غاية هذه الأخيرة الرّامية إلى الإحاطة الشّامِلة والمُمكِنة بِالمَفاهيم ومَدى قُدرتِها على تَجسيد النّظريّات وتَنظيمها بِاعتِبار اللّفظ معبرًا. يتوفّر كلُّ مُتحدِّث بِغضّْ النّظر عن نوْع اللُّغة الّتي يَستعمِلها في تَواصُلِه مع غيره، على سِلسلة مُعيّنة مِن المَعارِف المُتعلِّقة بِلغتِه، تلك الّتي تُشكِّل جزءً هامًّا مِن القُدرات الإدراكيّة التّابِعة لِدماغه أو الفكر الإنساني البشري وهي ماهية وِراثيّة، حسْب نظريّة تشومكي، إذ أنّ مَن يتحدّث بِلُغةٍ مُعيّنةٍ يَدري على العُمومِ كيف يَستعمِلها لِلوُصول إلى أهدافٍ مُعيّنة. لِذا نَستطيع القولَ إنّ هذا الإنسانَ قد اكتَسب مَلَكة المُمارسة التّداولية (Competence pragramatique) تَتواءَم مَع ملَكَته اللُّغويّة الّتي تَختصُّ بِالنّحو (القواعد). فهكذا يتمُّ استِعمالُ كلّ لُغةٍ لِجُملة هذه المَباِدئ العامّة وكلّ بِطريقتِها الخاصّة. بِيد أنّ التّنوُّعات الّتي تَسمح بِها لا تَبتعِد كثيرًا عن الحُدود الضّيقة الّتي تَرسمُها تِلك اللُّغة. فتَضع النّظريّة التّبليغيّة، على ضوْء ما تقدّم، نصبَ عيْنها وصفَ المَعارِف المعجميّة الّتي هي في حَوْزة المُتحدِّثين، ويرمي ذلك الوصفُ إلى تَفسير نوع التّصرُّف الّذي يَصدُر عن هؤلاء المُتحدِّثين إزاءَ اختِيّاراتِهم المعجميّة، وما يجدر بهم أنْ يعلموه بِشأن الكلِمات الّتي وَقعت عليها تِلك الاختِيّارات مِن أجْل القُدرة على التّعبير كما يحْلو لَهم .
وهو ما يمكِّن من الاهتمام بالتواصل إلى جانب اللّغة ويعدِّل تراتبيّة قائمة على تقديم اللّغة بكلّ أصعِدتها ومستوياتها على التواصل بأهمّ سياقاته ، ويُخرِج من نمطيّة العلاقات الكائنة بين المجالين، إذ يصبح الأمر يُفهَم على أنّه ثمّة لغة وهناك تواصل يوضعان في مرتبة واحِدة، فيبرح المرء التعريف المعهود « اللّغة أداة تواصل » وهو تعريف لا يكذِّبه أحد، لكنّه يهمّ المدرسة الوظيفيّة في وصف اللّغة، بيد أنّه لا يستجيب بالكامل لقضيّة تنوّع مقامات التعبير وثراء سجلاّته، لهذا نجد فئة من الباحثين الذين نظروا من زاوية تعليميّة اللّغات لا ينتصرون إلاّ لنسبيّته، بل يلومون البيداغوجيا التي كانت تقول بأسبقيّة تعليم اللّغة على إتاحة سبل التواصل، إذ كما أنّ للغة قواعد فللتواصل قواعده هي التي تكفِّل سبل وتعزِّز قواعد الاستعمال .
وإذا أردنا تكيِيف التّعليم بالأهداف للتّعليم بالكفاءات فينبغي « الاعتراف [ على عكس ما يعمد إليه بعضُ المدرِّسين ] أنّه لا يُكتفى لتعلّم اللّغة باكتساب الكفاءات الأربع ، أي : فهم الجُمل ، والتّلفّظ بها ، وقراءتها ، وكتابتها فحسب ، لكن الأمر يتوقّف أيضًا على معرفة الكيفيّة الّتي تُستعمَل بها تِلك الجُمل لأغراضٍ تبليغيّة » . والكيفيّة تقتضي الاعتداد بمتغيِّرات تجعل من المحيط أحد الأبعاد المعتبَرة.
يُفضَّل هنا ألاّ يُستنتَج ممّا سبق أنّ للتواصل بنى خالصة ومتميِّزة تنفصل عن اللّغة انفصالاً كاملاً: فمثل هذه المقاربة مغالِطة، ولا يهمّنا كثيرًا في هذا المقام أن نثبت وجود تلك البنى أو ننفيه ـ فالمحاضرة لا تتّسع لهذا الموضوع ـ بقدر ما نرغب في وضع الإصبع على التفاعل الناشئ والمستمرّ بين اللّغة والتواصل وهو تفاعلٌ من شأن هذه المقاربة أن تُضعِفه، وبالعكس من ذلك على المعلِّم أن يفسح المجال أمامه. وإذا أردنا مسايرة منطق العلاقات المنطقيّة فنقول إنّ التعبير اللّغوي يشمل اللّغة ويشمله التواصل.
وهذه جزئيّة تعتريها علامات التقهقر الذي يأباه أيّ تحليل جدير بهذه التسمية ، إذ تحمل معها ما يدعو في الظاهر إلى إعادة إقامة اللّغة مقام التواصل، وهو تجاوز في حقّ هذا الأخير خطير، ولردّ هذا المأزق المحتمَل ينبغي فحص الموضوع في النطاق الذي تسوء فيه الأوضاع ويحسّ المرء إزاءه أنّ الأمور تستعصي على التقدّم: كيف بإمكان الواحد الأخذ بيد المتعلِّم للخروج من مجرّد تخزين المعرفة اللّسانيّة ومن المعلومات التي تخصّ عمل هذه المعرفة في التواصل إلى الاستعمال العملي لتلك المعرفة في المواقِف المتنوِّعة وغير المتوقَّعة للتواصل ؟ هذا التساؤل راود الكثير من الباحثين ، وإنّ الاشتغال عليه هو المقصود بعينه بالبحث عمّا يميِّز التواصل.
ومن غير المؤسَّس أيضًا زعم إنشاء علاقات تناظريّة مطَّردة بين التواصل واللّغة، فكلمة (شكرًا) تدلّ على الثناء وعلى المطالبة بمغادرة المكان ونهاية المشوار أو الرغبة في وضع حدٍّ لحديث، بل تدلّ أحيانًا على الذمّ والتأنيب؛ وهي كلّها مواقف تواصليّة مختلفة تتراكم في أسلوبٍ أدته في مثالنا كلمة واحدة يمكن ـ من جهةٍ محاولة تفهّم ذلك الزعم (التناظر) ـ الحفر فيها وفي مجاري دلالاتها المختلفة، لبعث المتراكم ونفض الغبار عن المدفون وتلمّس المحذوفات وإقامة التعليلات، وعقد التواصل بها يفرض قرائن (سياق الأحوال) تؤدّي أدوارًا كفيلة بإعادة الاعتبار لما ضيِّق من هامشه وهي بدائل تتخبّط الدلالات دونها، ومقامات التواصل هي التي تبرهن على أننا ” لا نقول كلامًا فحسب بل نعني ما نقول “ وهذا كلُّه سيظلّ يعيش في ذاكرة الكلمة ضف إلى ذلك إمكانيّة استغلال قوة شخصيّة القائل أو ضعفها، ومراعاة ما يمتدّ إلى أذن السامع من الصوت الذي يأتي في نغمات ولهجات طبيعيّة أو أقنعةٍ ولتفادي الاعتقاد أنّنا بصدد حصر التواصل في القضايا المتعلِّقة بحسن الآداب وقوانينه الاجتماعيّة نقول على غرار ما تخوّف منه كتّاب ” Apprentissage linguistique et communication “ في حال تركيزهم ـ أثناء مناشدتهم الجاليات المغتربة إلى تعلّم التواصل ـ على أمثلة مستقاة أسباب اللياقة في الحديث إنّ الهدف من ذلك ليس تعليم العمال سبل الالتزام بالسلوك العمليّ اللاّئق بقدر ما تسهر على تلقين إجادة ” فنّ “ التبادلات الكلاميّة
--------------
الأستاذ يوسف مقران