النقد في العصر الجاهلي
أوليات النقد الأدبي عند العرب : تعود بداية النقد العربي إلى العصر الجاهلي وكان وراء ظهوره عوامل أهمها ؛ خروج العرب من جزيرتهم والاتصال بالبلدان الأخرى المجاورة كالشام والعراق وبلاد فارس بدافع التجارة أو الحروب يضاف إلى ذلك مظاهر التعصب القبلي الذي كان سائدا بين القبائل وقد كان لهذه العوامل أثرها في ظهور النقد الأدبي وازدهاره ورغم أن بدايته كانت ساذجة بسيطة فإنه قد ساعد على تطوير شعرهم بما يقدم من ملاحظات حيث كان الناس معجبين بالشعر يستمعون ويتأملون قصائد الشعراء ويشيرون إلى مواطن القوة ومواطن الضعف فيفضلون شاعرا على آخر لفحولته وحسن إصابته أو ما تفرد به في شعره عن غيره ...
أوليات الشعر الجاهلي : لم يظهر الشعر الجاهلي هكذا ناضجا كما هو بين أيدينا ، إنما مر بضروب ومراحل طويلة من التهذيب حتى بلغ ذلك الإتقان الذي أصبح عليه في أواخر العصر الجاهلي وكذلك الشأن بالنسبة للنقد ، فقد ظهر مع بداية الشعر وما وصل إلينا من شواهد نقدية لا يدل على البداية الأولى لهذا النشاط وما بين أيدينا من أحكام نقدية إنما تعود إلى أواخر العصر الجاهلي كذلك بعد أن خطا هو الآخر خطوات ومن مظاهره ما كان يجرى فيما يسمى «بالأسواق» تارة التي يجتمع فيها الناس من قبائل عدة فيتذاكر الناس فيها الشعر ويلتقي فيها الشعراء ومن صور النقد الجاهلي ما كان يجري في بلاط ملوك الحيرة وغسان حيث يلتقي الأمراء والأعيان بالشعراء فيستمع فيها الحضور إلى ما قال الشاعر في مدح الممدوح فيعقبه نقاش وأحكام حول المآخذ ،وما أورده الشاعر من معاني تليق بمقام الممدوح ... ، فهذه النماذج هي أولى الصور النقدية التي وصلتنا من العصر الجاهلي أما قبلها فمغمور وغير معروف لم يصل إلينا منه شيء يذكر
ومن أبرز مظاهر النقد الجاهلي ما كان يجري في سوق عكاظ المشهورة التي كانت سوقا تجارية وموعدا للخطباء والدعاة وكانت في آن واحد بيئة للنقد الأدبي يلتقي فيها الشعراء كل عام ليتنافسوا ويعرضوا ما جاءت به قرائحهم من أشعار، ومما ذيع في كتب الأدب أن الشاعر النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة حمراء ، من جلد في ناحية من السوق فيأتيه الشعراء ، ليعرضوا عليه أشعارهم ومما يروى في ذلك أن الأعشى أنشد النابغة مرة شعرا ثم أنشده حسان بن ثابت ثم شعراء آخرون ثم أنشدته الخنساء قصيدتها في رثاء صخر أخيها التي
قالت فيها :
وان صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
فقال النابغة : لولا أن أبا بصير" يعني الأعشى" أنشدني من قبل لقلت أنك اشعر الأنس والجن .
وقد أعاب العرب كذلك على النابغة بعض الإقواء الذي لوحظ في شعره في قوله :
امن آل مية رائح أو مغتدي
عجلان زار زاد ، وغير مزودِ
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك حدثنا الغداف الأسودُ
حيث اختلفت حركة الروي مما يؤدي إلى خلل موسيقي وقد فطن النابغة إلى ما وقع فيه ولم يعد إلى ذلك في شعره
وأورد حما د الراوية أن شعراء القبائل كانوا يعرضون شعرهم على قريش فما قبلته كان مقبولا وما ردته كان مردودا،وقد قدم عليهم مرة علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدة يقول فيها :
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ؟ فقالوا : هذا سمط الدهر أي رائع وسيبقى في ذاكرة التاريخ .
وقد سمع طرفة بن العبد المتلمس مرة ينشد بيته :
وقد أتناسى الهم عند احتضاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة : استنوق الجمل لان الصيعرية سمة في عنق الناقة لا في عنق البعير
ونلاحظ من خلال هذه الشواهد أن النقد الجاهلي كان يعنى تارة بملاحظة الصياغة أي الشكل وتارة أخرى بملاحظة المعاني من حيث الصحة والخطأ ومن حيث الانسجام المطابق للسليقة العربية فقد ذمً الإقواء في شعر النابغة لأنه اخل بالانسجام وسلامة الوزن وحسن الصياغة لان الشعر عند الجاهليين هو حسن الصياغة وحسن الفكرة والمعنى وهو نظم محكم ومعنى مقبول وإلا ما كان شعرا فالمعنى الذي أورده المتلمس في بيته الشعري إنما هو معنى فاسد مرفوض لأنه اسند صفة لغير ما تسند إليه
فهذه القيم والمبادئ هي أهم المجالات التي جال فيها النقد في العصر الجاهلي التي تجنح إلى الحكم على الشعر من حيث المعنى تارة والمبنى تارة أخرى والتنويه بمكانة الشعراء وقدراتهم أما الذهاب إلى البحث مثلا في طريقة نظم الشاعر أو فحص مذهبه أو البحث في صلة شعره بالحياة الاجتماعية فذلك كان مازال غائبا لم يلتفت إليه الناقد إذ كان يأخذ الكلام منقطعا عن كل مؤثر اجتماعي خارجي وحتى عن بقية شعر الشاعر فهو نقد جزئي انطباعي أساسه السليقة والانطباع الذاتي
على أننا لا ننفي أن غرض الناقد كان يسعى أحيانا إلى وضع الأمور في مواضعها ووضع كل شاعر في المكانة التي هو جدير بها فحركة الروي في شعر النابغة كما أشرنا آنفا لابد أن تكون واحدة وذلك بطرح الإقواء والبعير ينبغي أن يوصف بما هو من صفاته أصلا وليس بصفات غيره وان الشعراء ينبغي أن يصنفوا وفق قدراتهم فلا يقدح الضعفاء على الفحول ويعني هذا أن للناقد الجاهلي قيما فنية كان يحرص على تحقيقها حيث يقرر الأحكام تارة في مجال الصياغة وتارة في مجال المعاني غير أن النقد الجاهلي على العموم إنما هو قائم أساسا على الإحساس بأثر الشعر في نفس الناقد والحكم دائما مرتبط بهذا الإحساس قوة وضعفا عماده الذوق والسليقة وليست هناك مقاييس تقاس بها الأحكام فما الذي فضل به النابغة الخنساء على الأعشى؟ وما الذي كان رائعا في بيته ؟ فهي أحكام لاتقوم على تفسير أو تعليل ، وعلى قواعد محددة ، فالنابغة اعتمد في حكمه على ذوقه الأدبي دون ذكر الأسباب والعرب حين نفرت أسماعهم من الإقواء في شعر النابغة ، إنما فعلوا ذلك استجابة لسليقتهم ، ورفض طرفة للمعنى الذي جاء في بيت المتلمس نابع من الفطرة العربية التي تأبى وصف الشيء بغير وصفه أو ما فيه
روي أن حسان بن ثابت سئل عن بيت القصيد في قصيدته يفتخر فيها فأجاب بأنه الذي يقول فيه :
لنا الحفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فأعاب عليه النابغة بأنه افتخر ولم يحسن الافتخار لأنه أورد كلمات غيرها اقرب وأوسع مفهوما ، فقد ترك الجفان والبيض والإشراف والجريان واستعمل الحفنات والغر واللمعان وهي دون سابقتها فخرا
فالبيت فيه امتحان لقدرات الشاعر على أدراك اللفظة الصحيحة في مكانها الصحيح وتؤدي المعنى بشكل أقوى حيث علق النابغة على محتوى البيت مخاطبا حسانا :
أقللت أسيافك وجعلت جفانك قلة ويعني بذلك أن على الشاعر أن يكون عليما باللغة ويحسن وضع المفردة لما تدل عليه والربط بين الدال والمدلول ، ومن الشواهد النقدية ما ورد في قصة « أم جندب » حين تنازعا علقمة الفحل وامرؤ القيس وادعى كلاهما انه اشعر فاحتكما إليها فقالت لهما : قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل ففعلا فانشد بها زوجها امرؤ القيس قائلا :
فللسوط ألهوب وللساق درة
وللزجر منه وقع احوج منعب
وقال علقمة :
فأدركهن ثانيا من عنانــــــه
يمر كمر الرائح المتحلب
فقضت أم جندب لعلقمة على امرئ القيس لان فرس امرئ القيس يبدو كيلا بليدا لم يدرك الطريدة إلا بالضرب والزجر والصياح خلاف فرس علقمة الذي انطلق بسرعة الريح ولم يحتج إلى الإثارة فهو ابرع وسرعته طبيعية أصيلة ويلاحظ أن أم جندب ، اعتمدت في حكمها على بعض القواعد وهي :
وحدة الروي والقافية ووحدة الغرض حتى تبدو بحق براعة كل شاعر في إطار الشروط المحددة ، ونستنتج من هذا أن النقد الجاهلي لم يكن يعتمد دائما على مجرد السليقة والفطرة بل كانت له أحيانا شبه أصول وقواعد يعتمد عليها