لعلنا جميعا نلحظ أن هناك تقارب لفظي بين لفظة "نقد" و"نقود" فما سر ذلك؟ وهنا سوف أوضح هذه العلاقة من ناحية، وسأقدم عرضا مبسطا لحال النقد الآن في العالم أغلبه من ناحية أخرى، وفي البداية أوضح أن لفظة نقد جاءت بالفعل مع النقود، وذلك عندما كانت النقود في الأمة الإسلامية تسك من الذهب، ومن ذهب ظهر بعض اللذين حاولوا غش ـ تزوير ـ هذه العملة، وذلك بخلط الذهب بالنحاس، ومن هنا كان لا بد من وجود من يستطيع التمييز بين العملتين ـ الأصلية والمزيفة، ولما كان المتعامل الأساسي مع هذه النقود هو الصارف ، والخازن الموجودان في بيت المال، لذا وجب عليهما أن يقوما بهذا التمييز، ومن هنا وجدت وظيفة جديدة هي الناقد، وكان عمله يقتضى بأن يميز بين العملات الأصلية والمزيفة بواسطة خبط هذه العملات على قطعة من الرخام، ومن الصوت الناتج يحكم الناقد على العملة،فإن أقر بأنها صالحة تم التعامل بها، وإن أقر بأنها غير ذلك أعدمت وألغيت من التعامل، وجدير بالذكر أن هذا الأمر كان يقوم به أكابر الصيارفة والخازنين، وكان عملهم هذا يلقى احتراما بالغا، خاصة وأن ليس كل الصيارفة والخازنين كانوا يستطيعون القيام بذلك، وإنما مجموعة معينة منهم، اشتهر عنهم اسم النقاد.
ولما كانت العرب تعتز بأدبها بقدر اعتزازها بمالها وربما أكثر، استعاروا هذا اللفظ "الناقد" و"النقد" لعملية الحكم على الأشعار والأقوال، وهنا فإن عمل الناقد هو تمييز الجيد من الردئ من الشعر، تحديده أيهما صالح وعليه أن ينتشر ويعيش بين الناس، وأيهما ليس كذلك وعليه أن يندحر، وأحيانا كان يتصادف أن الآراء تختلف بين النقاد والشعراء، فكانت حجة النقاد في تلك الفترة، هل ينفعك استحسانك لعملة ما إذا لم يجزها الصراف، وعليه فإن النقد في تلك الفترة كان معياري، بمعنى أنه يصدر الأحكام المعيارية بشكل أساسي على الأشعار ـ ولا أدب كان يعتد به في تلك الفترة غير الشعرـ، ولعل ذلك هو ما أوجد عندنا قضايا مثل : أشعر بيت، أهجي بيت ، أمد بيت وهكذا، وكأن الشعر العربي كله يختزل في بيت واحد، تماما كما يختزل رصيد بيت المال في كشف من إعداد الصراف.
واستمر الحال كذلك، إلى أن وصلنا لفترة الإنهيار إبان الحكم التركي للدولة الإسلامية، فتغير اسم "النقد" إلى "الانتقاد"، وواضح من التسمية أنه أصبح يعنى تصيد الأخطاء، وتوضيح ما انزلق إليه الشاعر من معايب ما كان يليق به أن ينزلق إليها ـ ولتلك النظرة أثرها إلى الآن، لكن مع تقدم الإحياء العربي ـ ولي في ذلك بحث سأعرضه عليكم قريبا إن شاء الله، أصبح هناك "انتقاد" و"تقريظ"، الأول هو المعني ليس فقط بأخطاء وعيوب الأدباء ـ تم اعتماد القصة كجنس أدبي في تلك الفترة (1867-1920م)، وإنما أيضا بكيفية تأليف الأدب، وأصبح من ضمن واجب الناقد تقديم النصائح للمؤلفين، بل العمل أيضا على تفجر القريحة الشاعرية في نفوس طالبي العلم، وأصبح التقريظ هو تقديم الكتب وتقديم تعريفات بأعمال الشعراء والأدباء، وتقديم تعليقات وشروح وغير ذلك، ثم مع مضى الوقت، ومع مجئ الرومانسية العربية (1920-1947)، والاتجاهات الاجتماعية (1947-1981)، ثم التوجهات البنيوية وما بعدها (1981م وإلى الآن)، تم الانفتاح على المفهوم الغربي للنقد، وهو الذي بدأ بداية مشابهة للبداية العربية من معنى تمييز الجيد والردئ، ثم انطلق إلى أفق فسيحة بعد ذلك، أفق جعلت النقد يحلم بأن يضع ما يعرف "بعلم الأدب"، وهو ذلك العلم الذي يحدد تماما ما الأدبي في الأدب ـ إن كان أيا من تلك الألفاظ غير واضحة فأشيروا ولي عودة لها، وحاول أن يجعل من الأدب موضوعا علميا مثل أي موضوع يبحثه العلم، تماما كما يبحث أي مهندس ماكينة ما، لكن ولأسباب ليس مجالها هنا ـ وقد أعود إليها إن طلبتم، تحول النقد عن حلم علم الأدب ـ عند البعض، وأصبحت له مفاهيم أخرى، وانبثقت منه ما يعرف "بنظرية الأدب"، وهي النظرية التي تجمع بداخلها بين تخصصات عدة ـ كعلم الجمال واللغويات والفلسفة وغيرها، وهدفها هو تشييد نظرية متكاملة تفسر الأدب كمنظومة متكاملة، بدءا من المؤلف وانتهاء بالمتلقي مرورا بكل ما بينهما من عناصر، حتى خاصية خلود بعض الأعمال دون غيرها في تاريخ البشرية، وقد تولدت نظرية الأدب عن نظريات عدة لها موافقها وأسسها ليس من الأدب فحسب، وإنما من كل شئ في العالم، حتى أن البعض يرى أن نظرية الأدب هي بديل الفسلفة والأيديولوجيا للإنسان في العصر الحديث، أتمنى أن أكون قد أوضحت مرادي، ومع خالص تحياتي وشكري: وائل سيد عبد الرحيم