التضاد
التضاد في اصطلاح اللغويين
يقصد به الكلمات التي تؤدي معنيين متضادين بلفظ واحد . ككلمة "الجون" تطلق على الأسود والأبيض و"الجلل" تطلق على الحقير و العظيم وهكذا .
وفي اصطلاح الأصوليين :
هو نوع من المشترك فمفهوما اللفظ المشترك إما أن يتباينا بأن لا يمكن اجتماعهما في الصدق على شيء واحد كالحيض والطهر فإنهما لمدلول واحد هو القرء ولا يجوز اجتماعهما في زمن واحد ولا يتواصلا فإنما يكون أحدهما جزءا من الأخر كالممكن العام للخاص أو صفة كالأسود لدى السواد فيمن سمي به وقد قال قطرب في حديثه عن تقسيمات الألفاظ قد يتفق اللفظ ويختلف المعنى، فيكون اللفظ الواحد على معنيين فصاعدا وذلك مثل "الأمة .. الدين … والأمة الرجل وحده … والأمة : القامة قامة الرجل …" فالمتضاد عنده هو مشترك لفظي لكن الاختلاف فيه يصل إلى درجة التضاد ولعل أدق تعريف هو قول أبي الطيب اللغوي : "وضد كل شيء ما نفاه، نحو "البياض والسواد، وليس كل ما خالف الشيء ضدا له" وهو بهذا يشير إلى الفرق بين المشترك والمتضاد فالمتضاد نوع من المشترك وأخص منه، لدلالته على معنيين متقابلين ليس إلا ويرتبط معه ارتباط العام بالخاص .
موقف العلماء من وجود التضاد :
1 - فريق ينكر وجوده :
كما اختلف العلماء حول وقوع المشترك والترادف اختلفوا أيضا حول وقوع التضاد وأسباب وقوعه، فرأى بعضهم أن التضاد ليس إلا نوعا من الاشتراك اللفظي ومن أبرز المنكرين للتضاد على الإطلاق ابن درستويه، فهو يرفض وجود هذه الظاهرة حيث قال : "النوء السقوط أيضا وأنه من الأضداد وهو الارتفاع بمشقة وثقل، وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد .
وإنكار ابن درستويه للمتضاد كإنكاره للمشترك حيث يرى فيه تغطية وتعمية للدلالة، ويرى أنه إذا اعترى اللفظة الواحدة معنيان مختلفان، لم يعرف المخاطب أيهما أراد المخاطب وانتصر السيوطي لهذا المذهب في صدر الفصل الذي عقده في كتابه المزهر فقال : هو نوع من المشترك وأنكره بعضهم مثل ابن سيده فقال كان أحد شيوخنا ينكر الأضداد وكان ثعلب يقول " ليس في كلام العرب ضد لأنه لو كان فيه ضد لكان الكلام محالا " كما انتصر الجواليقي لهذا الرأي وسنده إلى المحققين من علماء العربية، ثم عرض لكثير من الكلمات التي قيل إنها من الأضداد وبين عدم التضاد فيها ومن العلماء من عد الأضداد نقصا في كلام العرب وفي لغتهم، وقد رد عليه ابن الأنباري في كتابه عن الأضداد قال : " كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويربط أوله بآخره ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين لأنه يتقدمهما ويأتي بعدهما ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا المعنى الواحد و الجدير بالذكر أن ابن درستويه وثعلب إنما إنكارهما يتحدد في نشوء التضاد في أصل الوضع أما ظهوره فيما بعد فإنما هو لعوامل معينة .
الفريق الثاني : يقرّ بوجود التضاد
وهم أغلب علماء العربية نذكر منهم: الخليل بن أحمد وأبا عمرو الشيباني وقطرب وأبا عبيدة والأخفش الأوسط وأبا زيد الأنصاري والأصمعي وأبا عبيد القاسم بن سلام، وابن الأعرابي وعبد الله التوزي وابن السكيت وأبا حاتم السجستاني وغيرهم، وقد خص كثير منهم هذه الظاهرة بتأليف مستقل كقطرب و الأصمعي وابن السكيت وابن الأنباري وقد أقر علماء العربية بقلة هذه الألفاظ المتضادة . قال ابن الأنباري: وهذا الضرب من الألفاظ هو القليل الظريف في كلام العرب" وقد رد السيوطي على المنكرين بأجوبة منها:
1- أن كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويرتبط أوله بآخره ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه .
أسباب ظاهرة التضاد :
يرى الباحثون أن لظاهرة التضاد أسبابا منها:
1- التفاؤل و التشاؤم : وهما من الحالات النفسية التي تسيطر أحيانا على سلوك بعض الناس فقد يتشاءم بذكر كلمة وقد يتفاءل بذكر أخرى و اللغة تعكس ذلك كله مما يفسر لنا بعض كلمات الأضداد مثال ذلك كلمة المفازة وأصل معناها المعجمي النجاة من الهلاك ، واشتقاق الكلمة من الجذر(ف و ز) يؤكد ذلك . أما إطلاقها كاسم على الصحراء وهي في الحقيقة تدل على الهلاك والموت ، فمن قبيل التفاؤل ومثل ذلك أيضا كلمة السليم فإنها تطلق على اللديغ أو المريض من باب التفاؤل ومن هنا قد يحدث الضد .
2 - التهكم والسخرية : قال ابن الأنباري : " ومما يشبه الأضداد أيضا قولهم للعاقل : يا عاقل و للجاهل يا عاقل إذا استهزؤوا به " فالاستهزاء هنا أدى إلى تغير الدلالة إلى الضدية وهو أمر أيده المحدثون
3 - الخوف من الحسد : وذلك مثل أن يطلق العربي القديم على الفرس الجميلة اسم شوهاء أو حين يطلق على المرأة العاقلة بلهاء أو على السيف المصقول الخشيب وكل ذلك اتقاء للحسد و الخوف من الشر .
4 - ومن الأسباب أيضا : اختلاف اللهجات وتداخلها ، فللاختلاف اللهجي دور كبير في نشوء كثير من الظواهر اللغوية خاصة بعد تداخلها نتيجة رواية اللغة وجمعها من قبائل عربية متعددة ومختلفة في ظواهرها النطقية واستعمالاتها الدلالية، ومن أمثلة ذلك قول أبي زيد : السدفة في لغة تميم : الظلمة، وفي لغة قيس: الضوء، وقول ابن السكيت الساجد : المنحني وفي لغة طيء: المنتصب والسامد : الحزين عند طيء و اللاهي عند اليمن .
قال ابن الأنباري : " إذا وقع الحرف على معنيين متضادين فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما ولكن أحد المعنيين لحي من العرب و المعنى الآخر لحي غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض ، فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء " .
ثانيا : التغير الصوتي
وهو من العوامل اللغوية التي تؤدي إلى وقوع التضاد حيث يؤدي تغير بعض أصوات الكلمات إلى خلق كلمات ترتبط فيما بينها بعلاقة التضاد مثل الفعل ضاع الذي يدل على الاختفاء و الظهور معا ، و الأصل فيه الجذر (ض ي ع ) وأما دلالة الظهور فهي من الجذر (ض و ع) ثم تطور الفعلان إلى صورة واحدة هي (ضاع) ويدل على هذا الفرق صورة المضارع إذ هي بمعنى الفقد تكون (يضيع) وبمعنى الظهور (يضوع) وبالمثل : جبذ وجذب حصل لها قلب مكاني . ثالثا : دلالة الصيغة الصرفية .
حيث تحتمل الصيغة الصرفية أحيانا أكثر من دلالة مثال ذلك : صيغة فعيل التي تأتي بمعنى فاعل مثل : سميع عليم ، قدير ، أو بمعنى مفعول مثل : دهين بمعنى مدهون ، كحيل بمعنى مكحول ، جريح بمعنى مجروح .
ومن هنا قالوا بالتضاد في الغريم بمعنى الدائن والمدين والقنيص بمعنى القانص والمقنوص .
رابعا : الاستعمال المجازي
ويراد به الاتساع في استعمال دلالة الألفاظ الحقيقية و الانتقال منها إلى معان مجازية لعلاقة ما تربط بين المعنيين وقد يصل هذا الاتساع إلى درجة الضدية، ولما كثر استعمال هذه الألفاظ بمعانيها الجديدة وتنوسي الأصل عدت من الأضداد .
قال أبو علي الفارسي: " أن تكون لفظة تستعمل بمعنى ثم تستعار لشيء فتكثر وتغلب فتصير بمنزلة الأصل " ومن هذا الاتساع كما جاء في كتب الأضداد : كأس : هو الإناء الذي يشرب فيه ، و الكأس ما فيه من الشراب .
خامسا : دلالة اللفظ على العموم
كأن يكون المعنى الأصلي للكلمة يدل على العموم ثم يتخصص هذا المعنى مثل كلمة : الطرب وأصل معناها الخفة تصيب الرجل لشدة الفرح وشدة الجزع، فقد جاء من تخصص الدلالة على الحزن مثل ذلك : المأتم معناها الأصلي النساء يجتمعن في الحزن والفرح على السواء، ثم خصصت الدلالة باجتماعهن في الحزن فحدث الضد .
ونشير أخيرا إلى :
أولا : نماذج من كتب الأضداد في التراث اللغوي العربي :
1- كتاب الأضداد لقطرب (ت 206هـ )
2- كتاب الأضداد للأصمعي (ت 213 وفيها خلاف )
3 - كتاب الأضداد لابن السكيت (ت 243 وفيها خلاف )
4- كتاب الأضداد للسجستاني (ت 255 هـ )
5- كتاب الأضداد لابن الأنباري (ت 327 )
6- كتاب الأضداد لأبي الطيب اللغوي (ت 351 هـ )
ثانيا : نماذج من الأضداد
السامد للحزين و اللاهي ، الصارخ للمستغيث و المغيث ، الصريم لليل
و النهار ، الجبر للملك و العبد ، جدا سأل وأعطى ، المفرح للمسرور
والمثقل بالديون ،السدفة للظلمة و النور، الجلل للعظيم و اليسير، القانع للراضي و السائل .
نص تطبيقي حول التضاد
قال ابن الأنباري في كتاب الأضداد : " كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويربط أوله بآخره ، ولا يعرف معنى الخطاب منه الا باستفائه و استكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين لأنه يتقدمهما ويأتي بعدهما ما يدل على خصوصية المعنيين دون الآخر ، ولا يراد بها في حال التكلم والاخبار الا معنى واحدا ، فمن ذلك قول الشاعر :
كل شيء ما خلا الموت جلل
والفتى يسعى ويلهيه الأمل
فدل ما تقدم قبل " جلل" و تأخره بعده على أن معناه ؛ كل شيء ماخلا الموت يسير، ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل هنا معناه العظيم .
- التحليل : يتحدث ابن الأنباري في هذا النص عن مظهر آخر من مظاهر الثروة الافرادية وهي التضاد ، ويعرفه قائلا : "... فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين ..." .
يظهر من هذا التعريف اتفاق التضاد والاشتراك اللفظي في دلالة لفظة واحدة على عدة معاني، لكن يشترط أن تكون المعاني متضادة في التضاد ومنه أخذ المصطلح ويقدم لنا ابن الأنباري مثالا وهو كلمة : جلل التي تدل على : العظيم كما تدل على ضدها أي اليسير.
وقد حاول هنا أن يرسي قواعد في طريقة فهم وإدراك طبيعة العلاقات الدلالية بين الكلمات، إذ أنه احتكم في الفصل بين معنى ومعنى الى السياق واستعمال المتكلمين للغة ، لأن اللغة لا تفهم ولا تستخدم الا في السياق .
ويرجع الكثير من علماء اللغة التضاد الى أسباب عديدة منها :
- عوامل التطور اللغوي من مجاز وتوليد
- التداخل اللهجي
- اختلاط المواقف الاجتماعية والنفسية للانسان تفسر جانبا من وقوع التضاد في الكلمات ، فقد يأتي على الإنسان حين من الدهر، يختلط في نفسه الفرح والحزن الأمل واليأس، وكلها أضداد تجتمع في نفس واحدة، حتى يصبح من العسير على المرء وضع حدود فاصلة أو محددة بين كل معنى ومعنى آخر، ويتبين ذلك في المثال الذي قدمه ابن الأنباري في كلمة " جلل".