بين فقه اللغة وعلم اللغة
الفقه - في المعاجم العربية - هو الفهم وربما خص بعلم الشريعة والدين.
وقد ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله " من أراد الله به خيرا فقهه في الدين " ومن هنا يتبين لنا وجود مطابقة من الناحية اللغوية بين الفقه والعلم، وبهذا أخذ عدد من العلماء و الباحثين اللغويين فلم يفرقوا بين العلمين ، وإنما جعلوا ( فقه اللغة وعلم اللغة) مصطلحين لمفهوم واحد أو علم واحد .
ومن أبرز هؤلاء العلماء المعاصرين الأستاذ الدكتور صبحي الصالح ، الذي قال في كتابه( دراسات في علم اللغة ) : "من العسير تحديد الفروق الدقيقة بين علم اللغة وفقه اللغة لأن جل مباحثهما متداخل لدى طائفة من العلماء في الشرق والغرب ، قديما وحديثا ، و قد سمح هذا التداخل أحيانا ، بإطلاق كل من التسميتين على الأخرى ، حتى غدا العلماء يسردون البحوث اللغوية التي تسلك عادة في علم اللغة ، ثم يقولون : " وفقه اللغة يشمل البحوث السابقة ..." والحقيقة أن العرب ، لم يكونوا يعرفون هذه التسمية أو هذا المصطلح "فقه اللغة "، الا في أواخر القرن الرابع الهجري ، وربما كان أول من استعمل هذا المصطلح أحمد بن فارس ،المتوفى سنة395 ه ،عنوانا لمؤلفه (الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها).
ويلاحظ بعد ذلك استعمال هذا المصطلح عند عدد من العلماء مثل الثعالبي -ت429هـ - في كتابه (فقه اللغة وسر العربية). وان كان هذا الكتاب حسب رأي الباحثين المعاصرين ، لا يمثل في موضوعاته ما يمكن أن يسلك في فقه اللغة . بينما نجد بعض المؤلفات الأخرى التي لا تحمل مثل هذا العنوان ، و لكنها تشمل موضوعات هي أولى بأن تكون من مباحث فقه اللغة مثال ذلك كتاب ابن جني- ت 392هـ المعنون ب ( الخصائص ) .
ولعل أقرب المؤلفات الى مفهوم فقه اللغة كتاب المزهر للسيوطي - ت 211هـ - . في العصر الحديث وبعد أن تقدمت البحوث اللغوية لا سيما في الدراسات اللسانية العربية ومنذ أن ظهر العالم اللغوي السويسري ، فرديناند دي سوسير الذي دعا الى الفصل بين الدراسات اللغوية وفق منهج علمي موضوعي يتمثل في دراسة اللغة بذاتها و لذاتها و بين المنهج التاريخي - الزماني التطوري - .
هنا بدأ الفصل بين علمين مستقلين هما (فقه اللغة) أوالفيلولوجيا حسب المصطلح الغربي و( علم اللغة).
وتجلى ذلك في الدراسات اللغوية المعاصرة في اختلاف الآراء وظهور مصطلحات مختلفة للدراسات اللغوية ، اذ يرى بعضهم ألا فرق بين فقه اللغة و علم اللغة كما هو عند صبحي صالح و كذلك محمد المبارك .
بينما نجد تسميات أخرى مثل ( الفلسفة اللغوية ) عند جرجي زيدان
و(الألسنية ) عند مرمرجي الدومينيكي و( اللسانيات ) عند الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح و (علم اللغة )عند محمود السعران و كثيرون .
لكن أشهر التسميات : فقه اللغة و علم اللغة ، أما مصطلح ( فيلولوجي ) الغربي الذي نترجمه الآن بفقه اللغة فيحتاج الى بعض التفصيل .
وتبين الدراسة التاريخية بين القرن الثامن عشر و القرن العشرين ، أن هذا المصطلح لم يكن واضحا، حيث استعملت مصطلحات أخرى من قبل وشملت بحوثا لغوية مختلفة مثل دراسة النحو والصرف والنصوص القديمة و يعتقد بعضهم أنه يشمل بحوث علم اللغة بالاضافة الى جميع الفنون اللغوية و الأدبية و تاريخ العلوم بشكل عام . ظل الأمر كذلك حتى ظهور ما يسمى
(اللسانيات)الحديثة عند دو سوسير و البنويين الغربيين .وتركت البحوث التاريخية والتطورية التي سميت بعد ذلك الفيلولوجيا . و لم تعد موضوعات مثل نشأة اللغات وغيرها تتدخل في نطاق ما يسمى بـ
علم اللغة )
من هنا يمكن أن نوجز المراحل التي مرت بها الدراسات اللغوية الغربية بما يلي :
1- مرحلة ما يسمى بالقواعد ، و قد شيدها الإغريق ،و تابعها الفرنسيون
وهي تعتمد المنطق والمعيارية ، وترمي الى تقديم قواعد لتمييز الصيغ الصحيحة .
2- مرحلة فقه اللغة ونشأت في مدرسة الاسكندرية و تنصب الدراسة فيها على النصوص القديمة المكتوبة ، واللغة ليست موضوع الدراسة الوحيد وانما التاريخ والشرح والتفسيرو العادات ... وتهتم أساسا بالنقد ، وقد عبدت الطريق لما يسمى باللسانيات التاريخية .
3 ـ النحو المقارن ، و بدأت هذه الدراسات باكتشاف اللغة السنسكريتية (الهندية القديمة) و كانت في البداية - عند علماء الهندواوروبية - ذات منهج طبيعي ، عند ( بوب وماكس ميلر )
ثم تشكلت مدرسة جديدة تحمل اسم النحويين المولدين الألمان بحافز من كتاب الأمريكي ، ( ويتني ) الذي عنوانه ( حياة الإنسان )
4 - وفي الثلاثينيات من القرن العشرين ظهرت المدرسة البنيوية، التي لا تعتمد معايير خارجة عن اللغة ، فاللغة منظومة لا تعترف الا بنظامها الخاص و قد تم تطوير هذا الاتجاه في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد ذلك تعددت الاتجاهات البنيوية في أمريكا وأوروبا حتى صار ما يعرف بالمدارس اللسانية الحديثة .
ولو رجعنا الآن الى التمييز بين فقه اللغة وعلم اللغة يمكن أن نذكر أن الفرق الرئيسي يتجلى فيما يلي:
1 - يعتمد علم اللغة المنهج الوصفي الآني للنصوص اللغوية .
بينما يعتمد فقه اللغة المنهج التاريخي التطوري المقارن \
2 - تنصب الدراسة في علم اللغة على النصوص الحية وخاصة الشفوية منها . في حين نجدها تهتم في فقه اللغة بالنصوص المكتوبة والقديمة بشكل خاص بالاضافة الى المخطوطات والنقوش.
3 - يهدف علم اللغة الى دراسة النظام اللغوي في البنية اللغوية .
بينما يهدف فقه اللغة بالاضافة الى دراسة اللغة بحد ذاتها الى الوصول الى معلومات تتعلق بالتاريخ والثقافة ، والعادات والتقاليد وغير ذلك مما يمكن استنباطه من النص اللغوي ، وهنا تتخذ اللغة باعتبارها وسيلة ، بينما هي حسب منهج علم اللغة غاية بحد ذاتها .
عن د . أحمد الشامية والأستاذة نبيلة عباس