فقه اللغة - تعريف و توضيحات
إعداد : (د. أ حمد شامية والأستاذة : نبيلة عباس)
أهمية اللغة :
قد لا تبدو أهمية اللغة ودراسة علومها – وهي تسلك في مجموعة العلوم الإنسانية –لا تبدو هذه الأهمية في مستواها الحقيقي عند مقارنتها بالعلوم الأخرى لاسيما العلوم الدقيقة والتكنولوجية...وربما ينعكس ذلك على الاهتمام بدراسة اللغة مما يؤدي إلى عدم إعطائها القدر الكافي ، والمساحة الضرورية في وضع البرامج والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .
لكن لو حللنا المسألة بعمق وموضوعية لتبين لنا أن اللغة – أي لغة – هي عصب العلوم في جميع فروعها ، بل هي أداة الحياة والحضارة والتقدم .
حتى يمكن للمرء أن يقول أن الإنسان بتميزه عن غيره من المخلوقات قد كان له ذلك بفضل هذه النعمة ، حتى أنه قد يصدق القول ، الإنسان حيوان ذو لغة بما للغة من الارتباط الوثيق بالتفكير وتأمين الاتصال، ويمكن الرجوع في هذا إلى الكثير مما سجله الباحثون ورجال الفكر .
فاللغة هي الإنسان ، قال تعالى ( خلق الإنسان علمه البيان ) صدق الله العظيم . ففي هذه الآية نلاحظ هذه العلاقة بين خلق الإنسان وتعليمه البيان أي الكلام بلسان مبين مختلف عن وسائل الاتصال، أوما يسمى بلغة الطيور والحيوانات وغيرها ، فالمخلوق الوحيد الذي يمتلك مثل هذا اللسان وهذه الأداة هو الإنسان ، والإنسان وحده .
ولذا فكل ما يتعلق بالإنسان وتفاعله مع هذا الكون يستند أصلا إلى اللغة ومن هنا كانت اللغة جديرة بالاهتمام والبحث والدراسة للاستفادة من مزاياها وإمكاناتها إلى أقصى حد . والتفصيل في هذا الموضوع قد يطول ، ولكن يمكن أن أقول باختصار ، أن اللغة ، هي واحدة من الوسائل الحيوية الأربعة التي ما كان للإنسان أن يستمر في هذه الحياة بدونها ولكن على الترتيب في الأهمية ، بدءا بالهواء الذي لا يمكن العيش بدونه دقائق معدودة ولذلك وفرته العناية الإلهية بصورة غير محدودة ، بل هو الذي لا يسعى الإنسان إليه .
ويأتي بعد ذلك وفي المرتبة الثانية - الماء - إذ لا يستطيع الإنسان الصبر على فقدانه إلا لأيام معدودة ، ولذلك توفر في الحياة ولكن ببعض السعي والجهد من بحث أو سفر أو رحلة أو غيرذلك ، ثم يأتي في المرتبة الثالثة الغذاء وهو من الضرورات التي لابد منها لاستمرار الحياة ، ولكن يمكن الصبر على فقدانه لفترة أطول ، لذلك كانت الحكمة الإلهية توفره إنما بصورة أقل وتحتاج إلى فترة أطول من السعي والطلب .
وأخيرا تأتي اللغة و التي قد تعيش البشرية بدونها فترات طويلة نسبيا ولكن لولاها لما استطاعت أن تتقدم وتزهر وتبني وتعمر وبالتالي كانت عوامل الطبيعة قد عدت عليها فانقرض الإنسان ، وانقرضت الحياة ، إذ أننا لايمكن أن نتصور هذا التقدم العلمي الصاعد لوكان الإنسان دون لغة .
(انظر مقال : هل العربية ملكة اللغات ) مجلة المبرز،العدد الأول – المدرسة العليا للأساتذة 1992
إن ما نسعى إليه في هذا الموضوع هو لفت الانتباه إلى أهمية اللغة والسعي إلى دراستها وتعلمها بطريقة منهجية لنتمكن أيضا من تعليمها إلى الأجيال ببذل أقل ما يمكن والوصول الى أفضل النتائج .
اللغة :
من اللغو، أومن الفعل لغا يلغو، أي تكلم ونطق ، وقد يأخذ هذا الفعل معنى الكلام الذي لاطائل تحته ، أوهي(أي اللغة) من معنى الانحراف والاختلاف ، وتأخذ هنا معنى اللهجة ، ويقال لغا فلان عن الطريق أي حاد وانحرف .
وقد ورد في المخصص لابن سيدة (مج /1/ص6) : فلنقل على حدها وهو عام لجميع اللغات لأن الحد طبيعي ....أما حدها فهو أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، وهذا حد دائر على محدودة محيـط بـه لا يلحقه خلل إذ كل صوت يعبربه عن المعنى المتصور في النفس لغة ، كل لغة فهو صوت يعبربه عن المعنى المتصور في النفس وأما وزنها وتصريفها وما تحلل إليه من الحروف وتتركب عنه فهي (فعلة) مركبة من : ل،غ،وه .
يقال : لغوت أي تكلمت ، وأصلها (لغة ، ونظيرها : (قلة ، وكرة وثبة ) كلها لامها واو لقولهم : قلوت بالقلة وكروت بالكرة ، والجمع لغات ولغون .
ويعرفها أبو الفتح بن جني بأنها :" أصوت يعبر بها كل قوم أغراضهم" .
وعند الباحثين المحدثين لها تعريفات متعددة، ينظر إليها كل من زاويته . فهي ظاهرة اجتماعية ، أوهي وسيلة للتواصل، أوهي رموز واشارات صوتية ذات دلالات ومفاهيم .
ويمكن أن نلاحظ أن تعريف ابن جني للغة لا يكاد يبعد كثيرا عن المفاهيم الحديثة في علوم اللغة واللسان ، فهي مادة صوتية متمثلة بالجانب الفيزيائي الفزيولوجي ، مرتبطة بالفكر والذهن لأنها تعبر عن أغراض يريدها المتكلم ويفهمها السامع الذي يربطه بالمتكلم عقد المواضعة
وإذا رجعنا إلى كلمة (لغة) باعتبارها مصطلحا له مفهوم ، فلابد لنا أن نذكر أن هذا المصطلح يقابله عدد من المفاهيم يحدد أحدها السياق ، فقد كانت اللغة أو مازالت – تعني اللهجة ،فيقال : لغة قريش ، ولغة تميم ، ولغة قيس ... ونحن الآن نقول : لغة وهران أو تبسة أو غيرذلك ، وقد يكون معناها الكيفية فالفعل (قال) مثلا ينطق بكيفيات مختلفة مثل كال وقال ، وزال وجال ... وقد استعملت كلمة (لغة ) بمعنى المعطيات اللغوية أي المفردات التي جمعها الرواة من أفواه الأعراب عندما أرادوا وضع قواعد وقوانين للعربية وكان أحد هؤلاء يسمى ( اللغوي) ، مقابل النحوي الذي يضع القواعد . وتستعمل كلمة (لغة) في وقتنا الحاضر بمعنى دروس النحو والصرف وغيرها من علوم اللغة، فنقول لدينا حصة في اللغة مثلا ، كما أننا نستعملها اليوم بمعنى اللسان ، فنقول : اللغة العربية،أي اللسان العربي، وكل هذه المفاهيم لا ينفي بعضها الآخر إلا من خلال السياق كما ذكرنا.
ولكي لا تختلط علينا المفاهيم لابد لنا من المقابلة من جهة أخرى بين اللغة واللسان وبين اللغة والكلام .
فاللسان يمثل النظام العام ،ولذلك لم ترد كلمة( اللغة) في القرآن الكريم بل ورد اللسان العربي فهو النظام العام الذي يشمل كل اللغات (أي اللهجات) ولكن حتى اليوم نطلق كلمة (اللغة) على اللسان كما ذكرنا .
أما في المقابلة بين اللغة والكلام فلابد من ملاحظة أن الكلام هو الجانب المحسوس من اللغة التي هي نظام مجرد ذهني غير موجود في الواقع فهي ذلك النظام بمستوياته المختلفة المتواضع عليه فهي جماعية بينما الكلام فردي وهو استعمال لذلك النظام لذا يمكن أن تكون المقابلة كما يلي:
اللغة نظام مجرد جماعية الموصوف الموجود بالقوة الوضع
............ ........... ........... ............. .......
الكلام واقع محسوس فردي المنطوق الموجود بالفعل الاستعمال
وحتى لانقع في اشكالات أخرى ينبغي أن نفرق أيضا بين مصطلح (الكلام ) في هذا السياق مقابل اللغة ، وبين الكلام بالمعنى النحوي الذي يساوي الجملة المفيدة للسامع التي يأتلف فيها عنصران من الكلام كالفعل مع الاسم والاسم مع الاسم ، والحرف مع الاسم في حالة النداء فقط ، ويعرف الكلام عند ذلك بأنه اسم للمفيد من القول.
هذا بالنسبة للغة ، أما بالنسبة للفقه ، فكلمة (فقه) تعني العلم والمعرفة ، ولكن أصبح مدلولها إلى حد ما يفيد التخصص والتعمق ومعرفة التفاصيل والغوص في الجزيئات للوقوف على الدقائق والأسرار ولذلك فالفقيه هو العالم المتمكن في واحد من فروع العلم والمعرفة .
وبذلك يكون مفهوم فقه اللغة هو العلم الذي يبحث تفاصيلها ودقائقها .