salimmen1 salimmen1
عدد المساهمات : 898 تاريخ التسجيل : 05/07/2008 العمر : 42
| موضوع: نظريّة التلفّظ الأحد نوفمبر 02, 2008 8:43 pm | |
| 3.2.1 - نظريّة التلفّظ :
التلفّظ هو ترجمة للمصطلح الفرنسي Enonciation الذي أشار إليه الألسني السويسري شارل بالي (1865-1947) Charles Bally في كتابه (اللسانيات العامة واللسانيات الفرنسية). وقد بلور هذه النظريّة اللّسانيّ الفرنسيّ إميل بنفنيست (1902 ـ 1976) Emile Benveniste .
ومصطلح التلفّظ يقابل التلفّظ بالمعنى الأكثر شيوعاً لهذه العبارة مثلما تقابل صناعة الشيء، الشيء المصنوع وهي فعل الاستخدام الفردي للسان، بينما الملفوظ يعني نتيجة هذا الفعل. فرومان ياكوبسون يرى، كما يرى سوسير، أن وظيفة اللغة تكمن في تقديم المعلومات بواسطة مدونة، بينما يرى المعترضون أن اللّغة أكثر من ذلك بكثير. اللغة ليست مدونة تَنهضُ بوظيفة تواصل فحسب، إنما هي تطرح قواعد لعب تختلط اختلاطاً كبيراً بالحياة اليومية. وتأتي في صدارة تلك القواعد ، وقد اتّخذت مريم فرنسيس من تسميات ” عملية القول “، ” آلية الكلام “، ” وآلية التخاطب “ ترجمات مترادفة ومتقاطعة بعض الشيء لما يدعى في الفرنسية ﺒ ” Enonciation “ وفي الإنكليزية ﺒ ” Enunciation “، ومن منظور اللساني الفرنسي إميل بينفينيست E. Benveniste.
والواقع أن دراسة آلية التخاطب مرتبطة في اللسانيات الفرنسية باسم إميل بينفينيست الذي استطاع أن يجمع بين معطيات لسانية متفرقة وبين مفاهيم لغوية متفرِّقة ليبلور نظريته في هذا المضمار. فهو يرى أن اللغة، بوصفها نظامًا مجردًا أو طاقة مخزونة في ذهن الإنسان، لا تتحول إلى كلام حقيقي أو إلى نص أو خطاب إلا بواسطة عملية القول. وهذه العملية هي فريدة وفردية في كل الظروف والحالات. وهي ليست فقط جوهرية في صيغة النص ودلالته، بل إنها أيضًا وراء بنية وحدات لغوية تعبر عن مفاهيم إنسانية أساسية كمفهوم الشخص والزمان والمكان.
وكانت نقطة انطلاق إميل بينفينيست لهذه النظرية المنظور العربي لبنية الضمائر وتمييز النحويين العرب بين المتكلم والمخاطب والغائب بينفينيست 1949، ص.225 ـ 236). فمن خلال هذه التسميات العلمية التي نقلها بينفينيست إلى اللسانيات المعاصرة، أدرك أن عملية القول والتصاقها الحميم بصاحبها يحددان كل إحالة كلامية، وإن لم يستعمل حرفيًا العبارة أو يبسط منظوره هذا تحت عنوان ” الإحالة “ ما نفعل نحن هنا. فلقد أظهر أن بنية الضمائر أو وحدات الشخوص، وكما تعكسها التسميات العربية، مبنية على التقابل بين الحاضر والغائب، حضور المرجع أو غيابه: فالضمير ” أنا “ يحيل وجوبا إلى من يقول ” أنا “. وقوله ” أنا “ يفرض حتمًا حضور آخر يوجّه إليه خطابه ويشار إليه ﺒ ” أنت “. وهذه العلاقة الوثيقة التي تربط المتكلم بالمخاطب وتفرض حضورهما الضروري والمشترك في عملية القول أو التخاطب تبرز جليًّا من إطلاق تسمية ” الغائب “ على كل من ليس حضوره ضروريا. مما قيل سابقاً، نستخلص الشكل الأولي لهذه الإشكالية. وقد أوضحنا، بالفعل أن على الدراسة المعمقة لمعنى منتوجات الفعالية اللغوية إيضاح شروط إنتاجها. وسنقوم الآن بشرح هذه الصيغة مستعينين بمثال:
(قطة عمتي [كائنة] فوق السجادة)- بالشكل الذي يستخدمها فيه النحوي. بهدف إيضاح إحدى البناءات الممكنة للرابطة Est (كائنة). في كتاب القواعد تكون هذه الجملة معزولة عن أيّ سياق أيّ: السياق الكلامي Verbal والسياق المقامي Situationnel. فهل يسعنا القول إنّ الجملة تحمل معنى، ضمن هذه الشروط ؟ قد يكون في هذا السؤال ما يوحي بالدهشة لكن إذا قمنا بمقارنة جملة:
(قطة عمتي [كائنة] فوق السجادة) بجملة شومسكي الشهيرة: (أفكار خضراء لا لون لها تنام بشكل مخيف) لتبيّن أن الجملة الأولى واضحة، أما الثانية فعلى العكس، على الرغم من توفر قواعد التركيب فيها: إنها غير واضحة لأنها تربط الاسم (فكرة) بالصفة (أخضر)، وتربط الاسم نفسه بالفعل (نام، الخ). كل كلمة من تلك الكلمات تنتمي إلى اللغة العربية ولها دلالة في المعجم ومع ذلك فإن مجموعها لا يشكل جملة عربيّة مبنية بشكل جيد.
وحتى تكون الجملة مبنية بشكل جيد لا يكفي أن تضم كلمات تنتمي إلى اللغة وتشكل وفقاً لقواعد علم التراكيب، لكن ينبغي أيضاً أن تكون بينها درجة معينة من الدلالية. وهكذا فإن الجملة التي نبحث فيها هي جملة واضحة لأنها مشكلة بشكل جيد، على عكس جملة شومسكي.
لكن الاكتفاء بهذه الحتميات للتأكيد على أن لتلك الجملة دلالة أو معنى يمكن أن يؤدي إلى قضية تعريف المعنى، وهي قضية واسعة، لا يسمح بشرحها شرحاً مفصلاً. لكن من الضروري أن نتحدث قليلاً عما نعنيه ” بالوضوح “ حتى يتسنى لنا فهم بقية الموضوع. إحدى الطرق الممكنة هي اعتبار الجملة واضحة حينما نتمكن من تحديد شروط الحقيقة فيها، وقول ما ينبغي لنصرح بأن الملفوظ الناتج عن استخدام فعلي للجملة في حالة تلفّظيّة محددة هو ملفوظ حقيقي أو خاطئ. بالنسبة لجملة شومسكي، ليس هناك شروط حقيقية قابلة للتحديد (إلا إذا لجأنا إلى مغامرات الخيال لكي نجد لها تأويلاً معيناً في سجل الاستعارة) أما جملة: قطة عمتي [كائنة] فوق السجادة (Le Chat de ma tante est sur le tapis)، فالشروط هي التالية:
الملفوظ الذي ينتجه تلفّظ هذه الجملة، يكون حقيقياً (صحيحاً) في لحظة توافق فيها هذا الملفوظ مع لحظة قد يستخدمه فيها متحدث، إذا كانت هناك قطة خاصة وسجادة خاصة تحتل القطة بالنسبة لها (السجادة) موقعاً معيناً (هو الموقع المدلول عليه بـ Etre sur= كائنة فوق). كما ينبغي أن يكون للمتحدث عمة، وأن يتوجه إلى متحدث مخاطب Allocutaire سواء كان حقيقياً أم خيالياً مزعوماً على أنه قادر على تمييز الحالة الموصوفة.
لاحظوا أنني حينما أحدد شروط حقيقة الجملة بهذه العبارات فإنني بذلك أسمي المستعملين (متحدثين ومخاطبين) الذين تصبح الجملة ملفوظاً بوساطتهم، وألمح إلى الزمان والمكان اللذين أنتج الملفوظ فيهما، بالإضافة إلى أنني أقول شيئاً عما قد يفعله المتحدث حين يلفظ الجملة: فقد يزعم أن المتحدث إليه قادر على قبول وجود القطة وأنها وحيدة، وكذلك وجود (العملة) و(السجادة) وقد يتصرف كما لو كان هذا الوجود وتلك الوحدة لا يمكن اعتبارهما حاصلين، بمعنى آخر، فقد يفترض مسبقاً وجود واحدية (القطة) وواحدية (العمة) وواحدية (السجادة). الافتراض المسبق ـ كما يقول بعض اللسانيين ـ يشكل جزءاً مما نسميه أفعال اللغة وهو فعل قد ينجز في حالة جملتنا هذه باستخدام المورفيمات (الشُكيلات) Le, Ma, Le في الجملة الفرنسية: Le chat de ma tante est sur le tapis
هناك جمل أخرى تتضمن أشكالاً كلامية verbales مثل PROMETS JPأعدُ، أو JE JURE أقسم، التي ينطوي تعريفها الشائع على الإيحاء بالفعل الذي نحققه حينما نقوم بلفظها، أي أن الدلالة تتكون أساساً من خلال توقع قيمتها كفعل -على اعتبار أن JE PROMETS أعد، تعني "إنجاز الوعد لحظة قول: أعد"؛ وأن أقسم "تنجز القسم لحظة قول: "أقسم".
بشكل عام، تنطوي الجملة، إذا كانت على شكل موجّه Modalité تقريري أو أمري أو استفهامي أو تعجبي، على تحديد من نمط الفعل Acte، تستخدم ملفوظيته لإنجازه، وإن استخدام الجملة التقريرية بشكلها هذا، يعني أن تفرض نفسك باعتبارك مقتنعاً بما تلفظ، وأنك تضع متحدثك في موقع يستحيل عليه فيه الرفض أو الإنكار، إلا إذا كان سيئ النية، وأنه قد أعلم سلفاً بقناعتك تلك، واستخدام جملة أمرية يعني أنك تفرض نفسك في موقع المالك لسلطة إعطاء الأمر وزعمك بأنك تضع المتحدث بين خيارين هما: إما الطاعة أو الرفض ..الخ. هذا الوصف الموجز يكفي لإيضاح أنه عند البحث عن تحديد شروط حقيقة (صحة) جملة ما من الصعب فصل قيمتها الوصفية عن القيم الملفوظية التي تقرها.
ما يسمح بتعزيز المسألة التي طرحناها سابقاً، بشكل أكثر دقة هو: هل يمكننا القول عن جملة تقع خارج سياقها بأنها تحمل معنى دون أن نتمكن من تحديد مكونيّها الشرطي الحقيقي Vériconditionnelle أو الملفوظي ؟
الجواب يرتبط بقرار مصطلحي: فإما أن نستخدم مصطلح معنى Sens على مستوى الفهم المتعلق بالجملة، أو أننا نحتفظ به لمستوى التأويل Interprétation المتعلق بالملفوظ.
2- انتقاء عناصر من أجل بناء نظريّة لغويّة تعليميّة:
كيف تصل المفاهيم إلى نفسيّة التلميذ وعقله وما يميِّز بعضَها عن غيرها، وهل تصل بنفس الطريقة إلى نفسيّة كلّ واحدٍ منهم ؟ ما هي العمليّة اللّغويّة التي تجعلها قريرةً ومكينةً في ذهنه، بدون صياغاتٍ لغويّة متوارِدة ومتوارثة لا يقع التصريح بأيّةِ معلومة مهما كانت زهيدة وبسيطة، وبالموازاة لن يتقدّم الحوارُ لأنّ مفهومًا لم يتمّ الإعلانُ عنه ولم تقع صياغتُه لا يحقّ إثارة الجدل الصاخب أو المفيد حوله . والمفهوم الذي يتواجد قيدَ التحليل والمعلِّم لم يبلغ الدرسَ منتهاه ولم يُشبِع فضولَ متعلِّمه، إنّه لأمرٌ مملٌّ بالنسبة لبعض التلاميذ إذ يُدعون إلى المشاركة في إعداد المفاهيم وتعريفها. لا يخدعنْك مظهرُ التجانُس، إنّ لكلّ واحدٍ منهم عالَمه. سيعلِّه هذا التقليد، بناء المفاهيم في منظوماتٍ، على الإطلاق
نريد من هذه النظريّة أن تشمل تلك اللّغة العلميّة التي يحاول المعلِّم أن يعوِّد بها تلاميذه، استوحيناها من كتاب بيير لورا Pierre Lerat الفرنسيّ المختص في اللسانيات ولغات الاختصاص :
1.2 - اللّغة ومنحاها العلميّ:
يقاس نضجُ أيّ نظريّة إلى حدٍّ ما بقدر الملاحظات الملتقطة والمحسوبة بشكلٍ مؤقّت من ضمن المكاسِب، وبعدد نماذج التّحليل المختبرة، وفي أحسن الأحوال بناءًا على القوانين والصّياغات القابلة للاستعمال من غير تبرير. وفي هذا الشّأن فإنّ للّسانيّات إفادة تجلبها من سند، ألا وهو النّحو، يتيح لها فرصة وصف لغات في سبيل تعليمها، وذلك بإعادة استخدام معارف تعليميّة ومهارات عمليّة.
يعدّ رصد المعطيات بالنّسبة لأيّة لغةٍ أمرًا حيويًّا. فالوضع الميسور هو ذلك الّذي تتواجد فيها اللّغة معزّزةً بتقاليد راسخة مسبقا. فهكذا، فيما يخصّ اللّغة الفرنسيّة مثلاً فقد سخِّرت أوّلاً أعمالٌ إغريقيّة ورومانيّة تتعلّق باللّغات القابلة للمقارنة، ثمّ بالأوصاف الآنيّة والتّاريخيّة، وبالقوانين الصّوتيّة، ومن حينٍ لآخر، بالتّنظيرات المتوافِقة مع حقائق اللّغات المشاهدة. أمّا بالنّسبة للّغات الّتي لا تزال معرفتها ضئيلةً فخطرُ المبادرة بمحض القيّاس يظل قائمًا. اللّغة هي نظامٌ من الأدلّة المنطوقة و/أو المكتوبة مرتبطٌ بتاريخٍ ما وبثقافةٍ معيّنة. كذلك، أيّة لهجةٍ هي في ذات الأوان جملة من اطّرادات شكليّة ومن تراث: فعدد المتحدِّثين ليس بالأمر عديم الأهميّة، لكن الخاصية اللّغويّة البحتة والخصوصيّة الثّقافيّة هي معايير التّعرُّف الّتي أُخذت معًا بعين الاعتبار من قبل المختصّين.
إذا وقفنا بشكلٍ مؤقّت عند استعمال « لغة القانون »، فيمكن تكريس مصطلح لسان (langage) بمفهوم « طريقة تعبير خاصّة ». سيّئة هذا الخيّار أنّه يقتصر على انزيّاحاتٍ ظاهرة، كالألفاظ المهجورة أو الجمل الاصطلاحيّة، إذن فهو يتوقف على الأسلوب. فمفهوم اللّغة المتخصِّصة مثلاً ينمّ أكثر عن الطّابع التّداوليّ: هي لغة طبيعيّة يُنظَر إليها بصفتها ناقِل للمعارف المتخصِّصة.
فهذه التّعابير هي لغويّة خالصة (سواء أكانت كلمات أم زمر من كلمات)، خارج لغويّة بحذافيرها (كيّانات غريبة على الأبجديّة) أو خليط (على غرار شعاع س نقول: ” سين “). فالعامل المشترك فيها هو أنّها تسمّي، وليس مجرّد التّعيين فحسب؛ التّعيين ما هو سوى التّبيين والعزل والتّوجيه (« الإشارة إلى »)، بينما التّسمية هي طريقة وسم شيئًا ما أو فئة من الأشياء بأسمائها.
إنّما هذا الأساس خارج اللّغويّ الممكِّن لسلطة التّسمية هو الّذي أدّى باللّسانيّين البنويّين إلى أن يأخذوا حذرهم المسبق تجّاه هذا الضّغط الّذي يفرِزه الجسد الاجتماعيّ.
لا تُقلَّص دائرة اللّغة المتخصِّصة بحيث تُحصَر في مجرّد المصطلحيّة : تستعمِل تسميّات متخصِّصة (المصطلحات)، بما فيها رموز غير لغويّة، ترد في ملفوظات تعبِّئ الإمكانات العادية الّتي تنطوي عليها لغة معيّنة. يمكِن إذن تعريفها بأنّها استعمال للغة طبيعيّة للإحاطة تقنيًّا بمعارف متخصِّصة. كلّ واحدة من هذه الخواص جديرة بتعليق:
1 - اللّغة المتخصِّصة هي أوّلاً لغة في مقام استعمالٍ احترافيٍّ (« لغة داخل اختصاص »، كما تقول مدرسة براغ). هي اللّغة ذاتها (باعتبارها نظامًا مستقلاًّ) لكنّها في خدمة وظيفة رئيسيّة : نقل المعارف.
2 - إنّ الطّابع التّقنيّ السّائد في الصّياغة خاضع للتّبدّل حسب مقتضيات التّواصل. يمكِن لهذه الأخيرة أن تؤدّي إلى استعمالٍ محدودٍ للغاتٍ لم يُعترَف لها، لدى مؤسّسة دوليّة ما، بمقام « لغة العمل ». بل من الوارد، كما يتجلّى عند مقتضيات الطّيران المدنيّ، أن تُقحِم تلك المقتضيات لغةً وحيدةً تُستعمَل بين ربّانٍ وآخر للتّقليص من حظوظ المخاطر، ناهيك عمّا تشترطه من تشفيرٍ غير لغويٍّ يُستعمل إلى جانب اسم علَم خاصّ بمدينة أو قرية، وهذا في سبيل الأداء الأمثل للمراسالة.
3 - يتمّ تسميّة المعارف المتخصِّصة بواسطة المصطلحات الّتي هي، قبل كلّ شيء، كلمات وزمر من الكلمات (مركّبات اسميّة ونعتيّة وفعليّة) خاضعة لتعريفات اصطلاحيّة. تتواجد هذه المصطلحات في معترك السّباق مع غيرها من المصطلحات، في نفس اللّغة، وفي الغالب مع مقترضات أيضًا، كما يمكِن أن تكون متعديّة الشّفرة، كحال الماء وثاني أكسيد الهدروجين (H2O)، لكنّها ذات نتائج لغويّة (مثلاً : يقال « الماء » لكن لا يقال « ا ثاني أكسيد الهدروجين (H2O) »). لهذا ينبغي الاحتراز من الخلط بين طريقة اشتغال اللّغات الطّبيعيّة وبين اشتغال غيرها من أنظمة سيميائيّة.
2.2 المعارف اللّسانيّة والمعارف غير اللّسانيّة
إنّ الطّبيعة المزدوجة للمصطلحات (كلمات لغة وتعابيرها، لكنّها في الوقت ذاته تسميّات لمفاهيم) عكّرت صفو الحدود السّوسيريّة القائمة بين اللّسانيّات الدّاخليّة واللّسانيّات الخارجيّة. فالمقاربة اللّسانيّة للمعارف باعتبارها كذلك هي حقًّا خارجيّة، بمعنى أنّها تنطلق من الأشياء (فيزيائيّة كانت أم لا) وصولاً إلى التّسميات مرورًا بالتّجريدات الاصطلاحيّة، وهذا وفق المقاربة المسمّاة مفهوميّة. لكنّها تظلّ لسانيّة باعتبار أنّ المصطلحات تخضع للوصف بناءًا على طرق التّحليل اللّسانيّ، مثلها مثل أي كلمة أو سلسلة من الكلمات : يمكن تقسيمها إلى أقسامٍ نحويّة، وإسناد إليها وظائف تركيبيّة، وتوزيعها توزيعًا ما، وصرفها، و [ إعرابها ]، وتقويم تهجئتها والنّطق بها، ونقول بوجيز العبارة يُتحرّى إخضاعها لتنظيمٍ مشتركٍ مع تفاوتٍ بسيط، وهو علم الدّلالة، بما أنّ تعريفها اصطلاحيٌّ، كما سبق وأن رأيناه. على هذا المنوال فإنّ قواميس اللّغة العامّة لا تقصي المعنى الاقتصاديّ لكلمة هامشيّ، يكتفون بإدماجها ضمن المادّة المناسبة ذات فحوىً عامّ، بالتّنبيه فقط إلى خصوصيّتها بواسطة علامة اصطلاحيّة تدلّ على الميدان .
ما يتواجد معرَّضًا للتّهديد بفعل الاضطرار إلى الفصل المنهجيّ بين مقاربةٍ بواسطة النّحو ومقاربة عن طريق المعارف هو شراهة الدّراسات اللّسانيّة الّتي أخذت بعد سوسير وقبل تشومسكي تنزع إلى الاستقلاليّة، بالإجمال، تحت اسم المعجميّات. بدت استقلاليّة الكلمات على أنّها وهمًا معجميًّا وكان ذلك بالموازاة مع تطوّر الأعمال التّوزيعيّة والتّحويليّة الّتي بيّنت أنّ أحاديّة أفعالٍ فَعل مثيرة للإشكال بتناولها خارج الدّرس الصّرفيّ. | |
|
salimmen1 salimmen1
عدد المساهمات : 898 تاريخ التسجيل : 05/07/2008 العمر : 42
| موضوع: تعليميّة اللّغات والنّظريّات اللّسان الأحد نوفمبر 02, 2008 8:47 pm | |
| 3.2 تعليميّة اللّغات والنّظريّات اللّسانيّة لا يتسنّى تأسيس نظريّة لتعليميّة اللّغات إلاّ على قاعدة نظريّة عامّة للّغات. غير أنّه فضلاً عن ذلك يجب على هذه النّظريّة أن تجيز اعتبار المصطلحات وتحمّلها بوصفها تسميّات للمعارف. فدفتر الشّروط النّظريّة، بتحرّي المزيد من التّدقيق، لا بدّ سيشمل مؤهِّلات يوشك ألاّ تتواجد مجموعةً منصهرةً في نفس مقاربة كلاسيكيّة وواحدة. دونك ما يبدو أنّه مطلوب :
1 - تصوّر متين للدّرس الصّرفيّ قادر على الالتفاف حول المكوِّنات المنطوقة والمكتوبة مهما تشعّبت، فالقضيّة العصيبة لم تعد الوقوف عند عتبة الوحدة الصّغرى (لمن يريد الكشف عن الحجج السّائرة في الاتّجاه المخالف، ينظَر Martinet, 1985) إنّما المهمّ هو استجلاء القيمة التّمييزيّة.
2 - درس تركيبيّ خاصّ بالمحلاّت يراعي توزيعات وتحويلات تركيبيّة.
3 - درس تركيبيّ ينفرد بالتّعليقات والتّبعيّات التّركيبيّة يسمح بمعالجة قضايا المعمول، والتّخصيص، والوظيفة، وبالتّالي تيسير التّفسير النّحويّ للمحلاّت المعلَّقة.
4 - درس تركيبيّ يكفل بالملفوظ يأذن بتناول قضايا الإحالة والتّداوليّة، وبالتّالي تسهر على التّفسير الدّلاليّ للتّبدّلات الشّكليّة، والمحلاّت والتّراتبيّات التّركيبيّة.
إنّه من الجليّ أنّنا في صدد أربعة أنواعٍ من المقتضيات الّتي قليلاً ما أوتي على تلبيّتها وهي مجموعة. وإذا أردنا ضرب بعض الأمثلة، فما يُعتبر في علم الصّرف محلّ إجماعٍ بين اللّسانيّين يقوم على تراث تليد (أقسام الكلام، والتّصريف، والاشتقاق والتّركيب)؛ وفي الدّرس التّركيبيّ الخاصّ بالمحلاّت، فالنّتائج المفحِمة هي تلك الّتي تكلّلت بها الأعمال المنجزة خلال النّصف الثّاني من القرن العشرين، وهي المستوحاة من الباحث الأمريكيّ هاريس (Harris) وأتباعه (يُنظَر Chomsky, Gross, Miller et Torris, Abeillé, etc.)؛ وفي الدّرس التّركيبيّ الّذي ينفرد بالتّعليقات والتّبعيّات التّركيبيّة، إنّما التّراث الكلاسيكيّ هو الّذي يفرض نفسه، وهذا انطلاقًا من النّحاة اللاّتينيِّين إلى تينيير (Tesnier) وخلفائه (ينظَر خصوصًا Serbat et Mel'cuk)؛ وأخيرًا، ففي مجال التّلفّظ إنّ الإقرار « الجهاز الصّوريّ » إنّما هو حديث العهد (Benveniste).
هذه الكتل العظيمة ليست قارّات معزولة ببحارٍ لا يمكن عبورها، لكن أيّ واحدة من الأولويّات الخليقة بمقاربة معيّنة تسبّب ضررًا لغيرها من الأولويّات : فهكذا ينطوي النّحو التّوزيعيّ على درسٍ دلاليٍّ مستجدٍ (فالأمر لا يتعدّى تقسيماتٍ إلى أصناف متفرِّعة بعضها عن البعض، مثل حيّ، ومادّي أو كثيف، وهي الّتي يتحقّق إسقاطها على مئات آلاف كلماتٍ تابعة للغة واحدة)، وعلى العكس من ذلك فالنّحو الّذي يتابع التّعليقات يميل إلى إيثار الكلمة. ألا إنّ على الأقلّ لتلك الكتل فضلاً يكمن في كون كلّ منها أتت على إنهاء برنامجها، ممّا يساعد على دفع عجلة المعرفة إلى الأمام. إنّ المجهودات الّتي تُبذَل في سبيل عرض نظريّة غير مِقصيّة تعنى باللّغات لجديرة بالتّقدير هي الأخرى، لكن إلى يومنا هذا لا نظريّةَ انبرت لتحتوي غيرها من النّظريّات، وذلك رغم المحاولات الرّامية إلى التّركيب على غرار ما فعل بنفنيست (النّظام السّيميائيّ والنّظام الدّلاليّ)، وما قام به ياكوبسون (Jakobson) (محور الاختيّارات ومحور التّركيبات) و ما أنجزه هاجيج (المقاربة عن طريق ثلاث « زوايا » متكاملة).
4.2 - لغات الاختصاص بوصفها متعدِّدة الأنظمة « اللّغة نظامٌ لا يخضع لغير نظامه الخاصّ »، هذا في حال إذا ما صدّقنا سوسير (ص.47). لكن هذا النّظام، عند سوسير نفسه، يؤول إلى تاريخٍ ما، وحتّى الآليّات الآنيّة لوحدها تَخضع من جهتها لتنظيميْن: هناك آليات تداعيّة وآليات تركيبيّة. ثمّة ثنائيّات أخرى لا بدّ من ذكرها: الدّال والمدلول، الدّليل (اللّغويّ) والمفهوم (خارج اللّغويّ)، الدّرس الصّرفيّ والدّرس التّركيبيّ. في أحوالٍ كهذه، فمِن الحكمة بمكان أن يُعترَف بأنّ اللّغات ترضخ لجملة من آلياتٍ داخليّة غير مطّردة ولتأثيراتٍ خارجيّة قد تبدو أنّها قيّاسيّة من وجهٍ ما، وذلك مثل أمراض الكلام، والازدواجيّة اللّغويّة، وكلّ التّنوّعات الّتي تنتاب الظّواهر الكلاميّة والّتي تهمّ أقدم الأبحاث (كالبلاغة) وتلك الّتي تستقطب اهتمام أحدثها عهدًا (كالحوار : إنسان ـ ماكنة)، ممّا يسفِر عن تكاثر « علوم اللّسان » وهذا في الوقت الّذي كان الشّائع هو مزاولة الحديث عن « اللّسانيّات » وعن « نظام اللّغة » وهذا إلى عهدٍ قريبٍ لا يتجاوز بضعة عقود.
في خضمّ هذه الأوضاع، فالطّريقة الأكثر إنصافًا للإمساك بزمام أمور الدّراسات اللّسانيّة هي على الأرجح تلك الّتي ترضى قدوةً علمَ الأحياء، وهو جسدُ مزيجٍ من المعارف يفتقر إلى الكيمياء والطبّ، بل إلى المعلوميّات أيضا. للّغات هي الأخرى موادّها الخامّة (التّسجيلات الصّوتيّة وسلاسل الحروف)، ولها تقطيعاتها الإجرائيّة (إلى وحدات صوتيّة، ووحدات صرفيّة، ومركّبات، وجمل)، بل لها وظائفها أيضا، ولها كيفيّات رسمها الخطّي والإلكترونيّ، وعلاوة على ذلك تملك تاريخًا وجغرافيّةً وذات طابع اجتماعيّ. فهكذا يستحيل على المختصّين في اللّغة العربيّة ألاّ يعبأوا لا بترتيب شؤون النّظام الفونولوجيّ، ولا بمدى تبعيّة النّظام الصّرفي للأصل وللقالب في آن واحد، ولا بطريقة التّوظيف المبدئيّ لأداة التّعريف وللتّنكير، ولا بالجملة الاسميّة، و لا بقضيّة رسم الحركات أو عدمه، ولا بمسألة وجود اللّهجات المتنوّعة، هذا إذا ما اكتفينا بالإشارة إلى بعض القضايا المألوفة للغاية.
يجدر ألاّ يُحشَد في هذا الشّأن بين الطّابع العلميّ وبين بساطة نموذجٍ مهما كان بريقُ هذا الأخير مستهويًا، وهذا على النّقيض من الطّبويّة التشومسكيّة الكائنة وراء « نظريّة علم التّركيب ». إنّما استمدّ المذهب التشّومسكيّ السّائد خلال السّتينيّات قوّته الحقيقيّة من كونه عبّد الطّريق أمام أعمالٍ وصفيّة أعطت الدّفع لمعرفة اللّغات فيما يخصّ جانبها التّركيبيّ، وهذا بشكلٍ أبعد بكثيرٍ ممّا سبق للنّظريّات المتقدِّمة عليه (في أوربّاGuillaume,Hjelmslev, Tesnière) وأن أحرزته من الإنتاجيّة.
لم تعد المدوّنة النّصيّة حكرًا على الفروع اللّسانيّة التي تقتضي التوسِعةَ في مادّة تطبيقاتها، إنّما أصبحت الدراسات المعجميّة تحسب لها حسابات، وتقرّ بوجود المقاربة النّصيّة ، وتدرِج في فصولها المخصَّصة للمولَّد، لكون المولَّدات إنّما تولَد في الخطابات ، وفي الخطابات تظهر الكلمات ضمن بنى تركيبيّة ، الاقتراب من المقاربة النصيّة يكون أجدى، فتسجيل المصطلحات ضمن نصوصٍ تستدعي نوعًا معيّنًا من القراءات، لأنّ القراءة النّشطة تتحدّد بالتّحريك الرّمزي للنص، أي التّعامل معه باعتباره منظومة سيميائيّة وليس كنسق من الأفكار ومركبًا syntagme من الدلالات، أي من خلال بناء الأفق وتعديله وتتأسّس عمليّة الفهم والإفهام وفتح حوار مع النص وتحديد شروط المعرفة وتجاوزها وإلغاء المسافات الزمنيّة، " لأنّ القراءة هي مستقبل النص ؛ بهذا يتمّ إنتاج متخيل النص . « إذا جاز للمصطلحات أن تشتغل خارج النّصوص، وهي تكتسب استقلاليّة أقرب إلى العناوين باعتبارها أسامي المفاهيم، فهذا ما هو إلاّ نتيجة بناء دلالاتها ضمن النّصوص واستقرارها فيها. غير أنّ هذه الاستقلاليّة متينة الارتباط بعمل التّسميّات: إذا حدث وأن طلعتْ على صفحة معيّنة دلائل مثل pylône, source, rouge-gorge, ou falaise, فكلّ واحد منها ستستدعي انطباعًا مرجعيًّا ما » .
فتفعيل السياق هو المعيار الذي يُبنى عليه تعريف المولَّد، « هو إبداع دلالات معجمية وتراكيب دلالية جديدة أي أنه يرتبط بظهور معنى جديد أو قيمة دلالية جديدة بالنسبة لوحدة معجمية موجودة أصلا في معجم اللغة، فيسمح لها ذلك بالظهور في سياقات جديدة لم تتحقق فيها من قبل ».
خاتمة: إذا كانت دلالة الخطاب تتضمن في المعجم اللاتيني الحوار وكذا معاني الخطابة فإن اللسانيات المعاصرة حددت جغرافية الخطاب عند حدود الجملة، حيث حظيت بالاهتمام والدرس بوصفها وحدة تتوافر على شرط النظام. وهي غير قابلة للتجزئة، وإذا أمعنا النظر في ماهية الخطاب على أنه ملفوظ يشكل وحدة جوهرية خاضعة للتأمل. ففي حقيقة الأمر فإن الخطاب ما هو إلا تسلسل من الجمل المتتابعة التي تصوغ ماهيته في النهاية.
أن يؤتى على إرساء صوتيّاتٍ وظيفيّةٍ ونحوٍ تابعيْن للغةٍ غير معروفة بعدُ لهو حجر زاويّة حريٌّ بأن يشهد على نضج هذين العلميْن الّذيْن تشكِّل مكاسبُهما تقاليدَ حيّة. فالمحاكمات الّتي تنازع الملكيّة الفكريّة، والّتي يمكِن إسناد أمر تفسيرها إلى الدّراسات الاجتماعيّة الملتفّة حول العلوم، كفيلةٌ بأن تُلبِس شأن مكاسب لم يثَر نقاشٌ حولها بعدُ، إذا لم يحتاط لذلك: فخارج نطاق اللّجان الّتي تتكفّل بمناقشة الرّسائل الأكاديميّة، فكلّ خبيرٍ متمرِّس يعرف كيف يشخّص الفونيمات الّتي هي وحدات ويعمد إلى نسخها صوتيًّا بوضعها ما بين خطّين مائلين، ولا تخفى عنه مورفيمات المباني المقدّرة الّتي تنطوي عليها الكلمة، ولا تفوته المركّبات الّتي تنتهي إليها زمر الكلمات والمتميِّزة بفضل الاحتكام إلى قانون الاقتصاد الّذي تخضع له الجملة، والكلمات لا ريب موجودة بما أنّه ثمّة كلمات متقاطِعة، وتقلّص نصوصٍ إلى كميّة معيّنة من الكلمات، وقواميس ذات قوائم معجميّة متوقَّعة. يليق باللّسانيّ أن يكون رائد فكرة ذات فحوى حول مسائلَ نظريّةٍ على غرار الاستعانة بمقاربة ثنائيّة في الصّوتيّات الوظيفيّة أم دون ذلك، ومثل وجاهة مفهوم المركّب الفعليّ أم عدمها ..الخ، لكن من الأهميّة بمكان ألاّ تكون تلك الفكرة مناوِئة لما اشتهر من جهة أخرى على أنّه مكسبٌ. وفي حال إذا ما ورد هناك خللٌ فيجب إمّا أن يتبرّأ ذلك اللّسانيّ من فكرته، أو يتصدّى للاستيعاض عن المقاربة الشّاملة الّتي كانت تسير عليها المادّة المعنيّة، وهذه مسئوليّة وقفٌ على بعض الأعلام المشهورة، مثل مؤسِّسي النّحو العامّ والمعلّل، وروّاد النّحو المقارن، وزعماء النّحو البنويّ والنّحو التّحويليّ. يجد المرء نفسَه هنا إزاءَ حالة مبتذلَة ما انفكّت العلوم تجتازها وفي هذا الصّدد فإنّ التّقدّم بجردٍ تحصيليٍّ ينجَز في اللّسانيّات من شأنه أن يُعيد إلى ذهن ذلك المرء حالةً مرّت على كلٍّ مِن علم الاجتماع وعلم الاقتصاد : فالموادّ الثّلاث لا تزال حديثة النّشأة، فكفاها ذلك صوابًا لئلاّ تستأثر بحقّ جحد هذا أو ذاك من مشيّديها.
ليس غيّاب نظريّة جامعة هو الشّيء الوحيد الّذي يُقنع المرءَ بالعدول عن أي نبذٍ لغيرِها، لكن ذلك مرتبطٌ أيضًا بالتّشعّب الّذي تختصّ به وقائع اللّغة. | |
|