متى نشأ الشعر ؟
إختلفت المصادر الأدبية في تحديد الوقت الذي نشأ فيه الشعر العربي ، فبعضها ينسب البداية الى نبي الله آدم(ع (ولعلهم نظروا إلى قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) فاستنتجوا بأن الشعر مما علم آدم ، ولذلك نسبوا بعض الأبيات والقطع الشعرية اليه ، وكذلك بعض الأشعار إلى إبليس وبعض الملائكة. (1)
وهذا الرأي مرفوض لأن آدم (ع) لم يكن عربي اللسان ، وأن تلك المقطعات ليست بشعر ٍ حقيقي وربما كانت مما نقل من الحضارة اليونانية أو الرومانية .
أما محمد بن إسحاق فقد نسب الشعر إلى العمالقة وعاد وثمود ، وحين يسائل عن ذلك يقول : ( لا علم لي بالشعر ، إنماأوتى به فأحمله . (2)
ورد عليه ابن سلام الجمحي بقوله : أفلا يرجع إلى نفسه ويقول من حمل هذا الشعر ومن أداه إلينا من ألوف السنين والله يقول : ( وأنه أهلك عاداً الأولى ، وثمود فما أبقى ) (3)، وقال أيضاً : إن ذلك ليس بشعر وإنما كلام معقود بالقوافي ، وكذلك رده بكون لغة عاد وثمود غير عربية واستدل بقول الإمام الباقر (ع) : ( أول من تكلم العربية ونسي لسان أبيه إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما ). (4)
وقال ايضاً : لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها المرء في حاجته وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف وذلك يدل على إسقاط شعر ثمود وحمير وتبع.(5)
غير انه ناقض نفسه واستدل على سقوط الكثير من شعر عبيد وطرفة وأضرابهم بسبب شهرتهم لأنها متأتية من كثرة النتاج الشعري ، وهذا يعني أن الشعر أقدم من هاشم وعبد المطلب لان نضوج أشعار عبيد وطرفة والمهلهل وغيرهم تدل على أن الشعر كان معروفاً قبلهم وأنه قطع أشواطاً عديدة ، ربما مئات السنين حتى أصبح بهذا النضوج والتكامل.
ويدل على ذلك أيضاً وجود شعراء انطمس ذكرهم وضاعت أشعارهم ولم تبق منهم إلا أسماء ذكرت في شعر غيرهم ، كقول أمرئ القيس :
عوجا على الطلل المحيل لعلنا ***نبكي الدياركما بكى ابن حذام ِ
قال ابن سلام عن ابن حذام : هو رجل من طيء لم نسمع بشعره الذي بكى فيه ولا شعراً عنه غير هذا البيت الذي ذكره امرؤ القيس .
أما الجاحظ فيعتقد بأن الشعر مقصور على العرب إذ يقول : فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب(6) ويعتقد أيضاً بأن الشعر ظهر بعد النثر ، وسيأتينا لاحقاً بطلان هذا الرأي ، أما المم الأخرى فإنها عرفت الشعر ولكن بخلاف الشعر المعروف عند العرب ، فعندهم الموزون وغير الموزون ، وليته ينظر العرب اليوم وأغلب شعرهم غير موزون ولا مقفى !! وهذا يدلنا على أن الأشكال الحديثة للقصيدة التي لا تلتزم بالوزن ليست بشعر ٍ إطلاقاً !!.
وعن نشأة الشعر يقول : ( قد قيل الشعر قبل الإسلام في مقدار أطول مما بيننا وبين أول الإسلام )(7) والجاحظ قد توفي سنة 255 هـ وهذا يعني أن عمر على حد قوله أكثر من 255 سنة على الأقل، وفي موضع آخر يقول :
( أما الشعر فأنه حديث الميلاد صغير السن أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه إمرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة فإذا استظهرنا وجدنا له إلى أن جاء الاسلام خمسين ومائة ستة ، فإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام)(
، وهذا يعني أن عمر الشعر 200سنة على الأكثر ، وهو خلاف القول السابق تماماً .
ولا يمكن الاعتماد على رأي الجاحظ لأنه متناقض في أقواله ، وكذلك قدم أمرؤ القيس على المهلهل وهو خاله وأكبر منه عمراً وأقدم منه وهذا مناط الكلام ، كما إنه أختص بذكرهم دون سواهم من الشعراء ، في حين زعم البكريون أن عمرو بن قميئة بن سعد البكري أول من قال الشعر وقصد القصائد (9).
والذي يظهر لنا هنا : أن الشعر العربي قديم ولكن ليس قدم آدم أو عاد وثمود ، فهناك شعراء ذكرتهم لنا المصادر الادبية أمثال العنبر الخضم ( العنبر بن عمرو بن تميم ) الذي توفي قبل الأسلام بأكثر من 225 عاماً
والبرّاق (البراق بن روحان بن أسد ) الذي توفي قبل الأسلام بأكثر من 150 عاماً والفند الزماني ( سهل بن شيبان البكري ) وهو معروف ومشهور وقصيدة النونية ذائعة الصيت يقول فيها :
ولم يبق سوى العدوا****ن دناهـم كمـا دانـوا
والذي توفي قبل الإسلام بأكثر من 90 عاماً عن عمر يناهز المئة ، وأشعارهم متينة السبك ، رصينة المعاني ناضجة الافكار، مستقيمة الاوزان ، غير مختلة القوافي ، تدل على أن الشعر في زمانهم كان أصيلاً ومعروفاً وناضجاً وليس بحديث عهد أو صغير سن ، وبأضافة معدل أعمارهم إلى تأريخ وفياتهم وتقدير فترة لا بأس بها تكفي لنضوج الشعر ، يمكننا القول أن الشعر ظهر قبل الإسلام بحدود 500-400 سنة تقريباً.
أما ما يذكره الباحثون من أن المهلهل وعبيد وامرئ القيس هم أقدم الشعراء المعروفين فذلك لشهرتهم الذائعة الصيت ولأن المهلهل ( أبو ليلى عدي بن ربيعة التغلبي ) أول من هلهل الشعر أي أرقه ، فيقال ثوب هلهل أي رقيق خفيف النسج ، قال النابغة الذبياني :
أتاك بثوب ٍ هلهل النسج كاذبٍ ***ولم يأت بالحق الذي هو ساطعُ
ويرى ابن الكلبي انه سمي بذلك لقوله :
لما توقل في الكراع هجينهم ***هلهلت ُأثارمالكاً أو صنبلا
والهلهلة التوقف عن الشيء .
أما أمرؤ القيس فلأنه أشعر العرب على الإطلاق وقد قال الشعر وهو غلام فاشتهر بالشعر واشتهر الشعر به ، وأما عبيد فإنه معاصره وله معه مناقضات ومناظرات .
-----------------------------
1-جمهرة أشعار العرب ص 31-32
(2)- طبقات الشعراء ص 5 _ الجمهرة ص 32
(3)- سورة النجم الآية 50-51
(4)الطبقات ص 6
(5)- الشعر والشعراء ص 62 _ الطبقات ص 22
(6)- الحيوان ص 107
(7)- الحيوان باب المحتجون بالشعر لرجم الشياطين
(
- الحيوان ص 106
(9)- معجم الشعراء ص 2
الموضوع منقول للفائدة