التلقي عند النقاد العرب :
ابن سلام الجمحي والتلقي:
طابع الشفوية هو الصفة الغالبة على التلقي بمختلف صوره في بيئة العرب في الجاهلية
وفي الإسلام ؛لأن العرب قالت الشعر بفطرة وسليقة، بديهة وارتجالا،كما تلقت الشعر أيضا بفطرة وسليقة، ولهذا فـ"الناقد القديم متلق فائق، وطريقته الشفوية ذهبت به إلى تمثل سريع للنص والتعامل معه بأقصى ما يمكن من الانتباه، فالنص الشفوي يمر كلمحة على مخيلة الناقد.. وغالبا ما يؤدي النقد الشفوي إلى حوار مباشر، بين الشاعر والناقد أو المتلقي".
ويمكن أن نطلق على تلقي المرحلة اسم التلقي التلقائي أو العفوي، ساهمت في بلورته حسب الدكتور إدريس بووانو خمس وسائل، فالقصيدة القديمة تلقاها العربي "أول ما تلقاها عبر شكل القراءة.. وتلقاها عبر وسيلة الرواية.. بمختلف قنواتها وأهدافها.. وعبر وسيلة السماع.. وتلقاها عبر وسيلة الإنشاد.. وتلقاها عبر وسيلة الغناء.
تحيلنا هذه الوسائل الخمس على البعد الشفوي في عملية التلقي عند العرب، ولكن التلقي تطورت وسائله وقنواته بعد هذه المرحلة، حيث انتقل الشعر و النقد معه إلى طور التدوين، مما جعل التلقي يقتبس كثيرا من سمات وخصائص هذا الانتقال.
فما ملامح التلقي عند النقاد المصنفين؟
أول ناقد نرى البدء به ههنا، هو ابن سلام الجمحي (231هـ) لأنه "أول من نص على استقلال النقد الأدبي فأفرد الناقد بدور خاص". كما أن فضله ثابت بعدما "دون المادة: النقدية السابقة، وجمع شتاتها ووضعها في قالب تأليفي منظم، فبدأت الحقائق تتضح وتبرز والأفكار النقدية تنتظم وتتحدد".
وأول صيحة أطلقها ابن سلام الجمحي، تتصل بمجال التلقي الشعري ذلك أنه نبه على ما أصاب الشعر العربي من انتحال وتلفيق ذهب بجمال الشعر وبريقه، يقول: "وفي الشعر مصنوع مفتعل، موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف"(1).
يكشف نص ابن سلام، وصيحته، علمه بالشعر، ومستواه الفائق في تلقيه، و "الناقد القديم لم يكن إلا حائزا على ميزتين هما علمه بالشعر ثم قدرته الخاصة على تلقيه".
وقد برهن ابن سلام عن علمه بشكواه من انعدام المديح الرائع والهجاء المقذع والفخر المعجب.. وهي ولا شك صفات كان ابن سلام يجدها في الشعر الجيد الذي انتهى إلى علمه وذوقه.
وإذا سألنا ابن سلام عن دواعي ذلك الوضع، أجابنا قائلا: "وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء". يشير ابن سلام إلى أنهم لم يأخذوا الشعر عن أهله الجديرين به، وإنما أخذوه ممن لا علم لهم به. وهذا يبين لنا وعي ابن سلام بالتلقي الجيد، ورغبته في السمو بالتلقي من خلال دعوته إلى وجوب نهل الشعر من ينابيعه الأولى التي من شأنها أن تمد هذا المتلقي بما يجلبه ويحدث لديه الإعجاب.
لقد سعى ابن سلام إلى إحاطة الشعر بسياج وقائي للحفاظ على جمال الشعر وروعته، من هنا أناط مهمة البث في جيده ورديئه إلى العلماء به بقوله: "وليس لأحد –إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي. وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر.. فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه".
يوكل ابن سلام أمر الشعر لأهله العالمين أسراره، وينادي عموم المتلقين للالتزام بإجماع العلماء المثقفين. وابن سلام بهذا التصريح يجعل لتلقي الشعر قانونا من شأنه أن يحمي المتلقي من الوقوع فريسة الشعر الفاسد.
وإذا علمنا أن العلماء بالشعر لن يؤشروا إلا على ما كان صحيحا من الشعر وجيدا، عرفنا آثار ذلك الإنجاز في المتلقي، حيث سيضطلع الشعر بمهمته الأولى، ألا وهي إحداث الهزة والتحريك المأمول.
لقد سعى ابن سلام إلى صياغة أذواق المتلقين السديدة والتي استوت واكتمل نضجها منذ عهد الفحول الأوائل حيث كانوا يستحسنون الشعر الجيد ويأخذون أنفسهم بالانفعال لمحتواه. وبهذا الإنجاز، كشف ابن سلام وعيه التاريخي والفني بالشعر العربي فجاء نقده خطابا مدويا ينذر من سولت لهم أنفسهم الارتكاس بمستوى الشعر وتلقيه إلى الدرك الأسفل.
لقد غدا الشعر مع ابن سلام "صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات"(2).
(1)- طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي, قرأه وشرحه محمود أحمد شاكر دار المدني بجدة،1/4
(2) – المصدر نفسه، 1/5.