* سـر النبوغ في الأدب *
( دراسة مقال للأديب الكبير : - مصطفى صادق الرافعي - )
ليست الكلمة ذلك المكون اللغوي المركب من تتابع حرفي، و لا تلك اللفظة المرسلة من أول اللسان إلى رأس القلم.. و لا ذلك الشكل الكتابي المنسوخ بمعناه الفوقي، الذي يترآى للقارئ من وهلته الأولى.. ثم لا يزيد على ذلك شيئا.
الكلمة.. هي ذلك الكائن الفكري الذي ينشأ في غيابة العقل.. روحا مدغمة في تفاصيل مضمرة.. لها إلى القلب و الروح وصلات.. حتى إذا استجمعت الذات أداتها من البيان، بثت فيها من مادة الحياة الفكرية.. عرقا ينبض بالمعنى..
فليست تكون الكلمة نسخا لغويا مجردا، إلا و قد سبقتها إلى ذلك تراكيب حية من العقل و الحس معا.
هي إذن .. مخلوق جميل من مادة الحقيقة، ينتظر من صاحبه أن يلج به إلى عالم الوجود.
و على قدر تعاظم وزن الكلمة من قضية إلى أخرى.. تتمايز الأقلام في أنماط المعالجة و تتفرد..
و انطلاقا من هذه النقطة بالذات، يحدد فارس الأدباء، الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" المعنى المضبوط للأدب كمساحة فكرية ذات ميزات خاصة، و يؤرخ بعدها لمفهوم جديد في عالم الفكر الأدبي المعاصر.
مفهوم يضع عينا جادة على موضوع النبوغ في الأدب، و يلمس فيه مواضع لم يسبق لأحد من قبله أن داعبها بذلك المفهوم، و لا حاكاها بالطريقة التي تعرض بها الأستاذ إليها.
يرى الرافعي أن الغرض الأول للأدب المبين : " أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول..و إلى مجاز الحقيقة، و أن يلقي الأسرار في الأمور المكشوفة، بما يتخيل فيها، و يردّ القليل من الحياة كثيرا وافيا بما يضاعف من معانيه، و يترك الماضي منها ثابتا قارًّا بما يخلد من وصفه، و يجعل المؤلم منها لذًّا خفيفا بما يبث فيه من العاطفة، و المملول ممتعا حلوا بما يكشف فيه من الجمال و الحكمة، و مدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهول التي هي في نفسها لذة مجهولة أيضا...".
و إذا أتينا على هذا التعريف المركز بالمعاني، و الذي استفاض فيه الأديب بجمالية ملفتة.. و فصّلنا تراكيبه كلا على حدة.. فإننا نلاحظ أن الأدب ليس وظيفة أحادية الإتجاه كما يتوهم الكثيرون.. و لا مضغة بسيطة تنبض في نسق واحد.. و إنما هو وظيفة فكرية إنسانية مركبة من مجموعة أغراض بديعة.. تنحدر كلها من أصل القلم الكاتب المبدع، لتتجه صوب كل ما يمكن للنفس البشرية التي هي المنهل الرئيس.. أن تضع عليه عينا.
" أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول..و إلى مجاز الحقيقة ".
- هذا تعبير مستدير حول نفسه بفنية بليغة.. إذ في الحقيقة، النفس هي من تخلق بالأدب لنفسها دنيا المعاني.. غير أن هذه الصيغة جاءت مفصلة لتكشف شيئا مما تتميز به الفطرة الآدمية في أصلها.. ألا و هي النزعة الثابتة فيها إلى المجهول..
و صدقا..
فالروح تستحضر لنفسها شغف المعرفة في لحظات تماس مع الحقيقة الواقعية.. و من شأن الأدب الحقيقي أن يوجد للنفس هذا العالم من روحية المعاني التي تنتفض لها الغريزة البشرية فيتفتق منها الفهم الحقيقي للأشياء عندما تداعبه الضمنية اللفظية الراقية، و تنفخ فيه الكلمة وقع الحقيقة من وجهها الأدبي.
يعرج الكاتب بعدها إلى وظيفة أخرى للأدب لا تقل شأنا عن الأولى إذ يقول : " و أن يلقي الأسرار في الأمور المكشوفة "..
- هذه العبارة قمة في النسج الأدبي الذكي.. فالأصل المنطقي المعتاد.. مبني على كشف الأسرار في الأمور المخبوءة.. و ليس إلقاء الأسرار في الأمور المكشوفة.. غير أن الرافعي..تعمد هذه الصيغة لأنها الأصح عندما يتعلق الأمر بالوظيفة الأدبية الحقيقية.
إن روعة الأدب تتجلى عندما يأتي الكاتب على كشف ستائر المخبوء .. و ينضح الحرف كوامن الأشياء و يلقي الضوء على خفاياها..
لكن هذه الروعة تكون أروع.. عندما يأتي الكاتب على فعل ما يشبه العكس.. و تبلغ ألقها الكامل لما يشعر القارئ أن تلك الأمور التي كان يراها قد ألقي فيها سحر ما يجتذبه إليها.. فيستبين سبيل الأشياء .. و يتوثق في ذهنه ما كان من قبل مستعدا ليكون موثقا..
إن تلك الأشياء المكشوفة تظل تحتفظ بمعناها الأحادي الذي أتت عليه العادة و أسبغه المألوف.. حتى إذا ملأها الأديب بمادة السحر الأدبي الكاشف.. ترآى للقارئ منها أكثر من وجه.. مع أنها نفسها لم تتغير.
تماما مثل ما يحدث مع المحاليل الكيماوية التي إذا أضيفت لمادة ما.. كشفت بسر قوتها.. أسرارا أخرى مبثوثة بداخلها.
هذا البيان الراقي.. أداته ملكة الخيال التي يوظفها الأديب فيحسن توظيفها.. فيضعها حيث تتخصب الحقائق و تنبثق.. فيكون هو الجميل بوضعها.. و الأجمل باستخراجها.
و عندما يقول : " .. و يردّ القليل من الحياة كثيرا وافيا بما يضاعف من معانيه، و يترك الماضي منها ثابتا قارًّا بما يخلد من وصفه، و يجعل المؤلم منها لذًّا خفيفا بما يبث فيه من العاطفة، و المملول ممتعا حلوا بما يكشف فيه من الجمال و الحكمة ... ".
هنا يضعنا الأديب أمام حقيقة أخرى هي من أجمل ما أوتي الأدب كمقصد و أبدع ما مُنح كميداء و غاية.. فكثير من مواطن الاختلاف في الكتابة الأدبية يتركز في كونها كتابة جمالية محضة ترقص على وترَيْ العقل و القلب في آن واحد.. و ينصب كثير منها على تلميع جوانب الأشياء لتبرز مظاهرها و تتكشف تفاصيها.. فتزول بذلك شوائب الغموض و تتجلى الحقيقة خاما على ما هي عليه.
غير أن فلسفة الجمال في الممارسة الأدبية لا تنحسر فقط على اللفظة المنمقة و الحرف المدهون الملون.. و إنما مردها إلى عميق الحكمة المستخرجة من صميم الحدث المعاش.. فتأتي الجملة حاملة في النبض نبضين : روح المشهد.. و صورته.
***
كانت هذه توطئة مفصلة لموضوع النبوغ الذي منحه الكاتب فصلا كاملا في كتابه، حيث تدرج بعد مقال : " الأدب و الأديب" الذي عمد فيه على شرح معنى الأدب كخطوة أولية جوهرية في الفكر الأدبي، فجاء تعريفه بذلك شاملا وافيا يجمع أغلب الرؤى و يوحد كثيرا من الآراء.. تدرج بعدها في مقال آخر إلى موضوع النبوغ الذي بين فيه الأديب أن الممارسة الأدبية هي عملية مركبة و متداخلة، للهبة الإلهية فيها من نصيب ما للإجتهاد الذاتي و السعي الدؤوب إلى توظيف القدرة العقلية التي يشترك فيها البشر جميعا.
إن مسألة النبوغ الأدبي برأي الرافعي مسألة عميقة التفصيل.. تتضافر فيها عوامل عدة.. يبتدئ أمرها أول ما يبتدئ من التركيب الذهني الذي مرده إلى هبة القدر عند مولد الإنسان، و في هذا يفصل الرافعي قائلا : " و الناس يختلفون بتركيب أدمغتهم على شبيه من هذا التدريج، فأما واحد فيكون دماغه باعتباره من سائر الناس في الذكاء و العقل كالوجود المحيط، و أما آخر فكالشمس، ثم غيرهما كالأرض، ثم الرابع كالإنسان، ثم يكون منهم كالحيوان و منهم كالحشرة، و لا علة لكل هذا إلا ما هيأت الأقدار (بأسبابها الكثيرة) لكل إنسان في تركيب دماغه في نوع المادة السنجابية من المخ، و أحوال التركيب في الملايين من الخلايا العصبية، و ما لا يعد من فروع هذه الخلايا و شعبها ...".فلا يمكن إذن انطلاقا من هذه النظرة.. إنكار أن النبوغ عطاء إلهي.. و انتقاء قدري.. و أنه بعد ذلك سينحصر في الموهوب لهم دون سائرهم.. على أن في القضية تفصيلا آخر سنأتي عليه.
و هنا تشبيهه الرائع : " فالنابغة خلق من خالقه، يُصنع كما ترى بأقدار الله، إذ هو قدر على قومه و على عصره، و هو من الناس كالورقة الرابحة من ورق السحب ( اليانصيب) : سلة يدٍ جعلتها مالاً و تركت الباقيات ورقا و أحدثت بينهما الفرق الذهبي ... ".
و إذا كان العقل الملهَم فصلا مقدرا.. فلا شك أن المناخ المحيط به يبدو للكثيرين كأنه مجند من أجله، فتأتي البيئة ( الفكرية و الملموسة) جزء لصيقا منه، و تتجلى عناصر الحياة ( المادية و المعنوية) كأنها تساير ذلك العقل في الذي يتفتق من عنده.
و قد لامس الرافعي هذه الفكرة قائلا : " و كما يخلق النابغة بتركيبه، تخلق له الأحوال الملائمة لعمله الذي خصّ به في أسرار التقدير عاملا نافعا، و إن كانت لا تلائمه هو منتفعا، فإنه هو غير مقصود إلا من حيث إنه وسيلة أو آلة تكابد ما تحتمل في أعمالها، و يؤتى لها لتأخذ على طريقة و تعطي على طريقة، و بذلك يرجع التقدير إلى أن يكون العقل لنابغة دليلاً للناس من الناس أنفسهم على الخالق الذي هو وحده أمره الأمر".
فالنبوغ إذن كما يظهر جليا.. خلطة مركبة من معاني روحية تحاكيها معاني عقلية مفرغة في معاني بيئية، و اصطفاف أنماط العطاء الإلهي في النفس البشرية الواحدة، المدغمة في تفاصيلها الشخصية التي يظهر منها الظاهر العادي، و يختفي داخلها الباطن غير العادي.. على أنه لا يختلف اثنان في ضرورة استحكام أدوات اللغة من بلاغة و نحو.. فليست تطاوع اللغة أحدا من دونهما.. و ليست تخضع الحروف لغير العارف بعلمهما.
إن القدرة على التوغل في رحم الواقع بتميز.. و القدرة على استقراء معطيات الواقع بتميز.. و القدرة على جعل العقول البسيطة من بعد ذلك تستمرئ تلك الإستنباطات المصاغة و تستوعب ذلك الكم من الإلهام المشفر في بدئه..و المترجم بتفرد إلى حروف مقروءة.. كل هذا.. تصميم لمعادلة معقدة تتحرك عناصرها في مساحة من ذهن يقوده الوعي الإجتماعي و السياسي و الديني و الفكري.. و يستثنيه شيء واحد يوميء إليه الرافعي في نصه الجميل، و يطلق عليه مصطلح : " التوليـد"..
يسترسل الرافعي في تفصيل هذه النقطة المهمة قائلا : " .. فسر النبوغ في الأدب و في غيره هو التوليد، و سرّ التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول و معانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء و أجرامها، و بذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، و الجوهر على الحجر... و يتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه المَلكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض... و بهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية و تتسق له طريقة، و بذلك تتنوع الأساليب، و يعاد الكلام غير ما كان في نفسه.. و تتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا و تتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة، و يرجع الحقيقي أكثر من حقيقته ."
هذا الكلام التحليلي غاية في الأهمية.. فالتوليد هو قدرة العقل على استخراج الباطن إلى الظاهر، و إمكانية تحويل هذا الباطن المدغم الخام إلى ظاهر بديع حكيم، تتوضح فيه الصورة ببث البيان في الصورة نفسها.. فيكون الأمر أشبه بقطعة خشبية يحولها النجار إلى تحفة..
و لا شك أن هذا ما عناه الرافعي نفسه عندما أشار إلى بيت أحمد شوقي الذي يقول فيه:
حوت الجمال فلو ذهبتَ تزيدها ** في الوهم حسنا ما استطعت مزيدا
و قال أن هذا البيت البليغ، هو نتاج عملية توليد أدبي من قول القائل:
ذات حسن لو استزادت من الحسـ ** ـن إليها لما أصابت مزيدا
و أن عملية التوليد عند شوقي قد أضافت للصورة الأدبية بلاغة أكبر و بيانا أروع، باستخدامه لكلمة " الوهم".. " فإن جمال الحبيب ليس شيئا إلا المعاني التي هي في وهم محبه ".
و من ثم.. فالتوليد ميزة تحتاج لميزات.. أولها ذلك النضج الذهني الذي أشار إليه الأديب في كلامه.. القادر على استخراج صور بليغة من صور بسيطة.. و استخراج الصور الأكثر بلاغة.. من الصور البليغة.
" و قد عرف الأدباء جميعا أن كاتب فرنسا العظيم أناتول فرانس كان يكتب الجملة، ثم ينقحها، ثم يهذبها، ثم يعيدها، ثم يرجع فيها.. و هكذا خمس مرات إلى ثمان.. و يقدم و يؤخر من موضع إلى موضع و يحتسبون هذا تحكيكا و تهذيبا، و ما هو منها في شيء، و لا أحسب الأوربيين أنفسهم تنبهوا إلى سر هذه الطريقة، و إنما سرها من جهاز التوليد في رأس ذلك الكاتب العظيم، فإذا قرأ كتابة حولها فكره و أبدع له منها من غير أن يعمل في ذلك أو يتكلف له إلا ما يتكلف من يهز إليه بجذع الشجرة لتساقط عليه ثمرا ناضجا... فكلما قرأ ولّد له ذهنه فيثبت ما يأتيه فلا تزال صورة تخرج من صورة حتى يجيء المعنى في النهاية و إنه لأغرب الغرائب.. لا يكاد العقل يهتدي إلى طريقته و سياق الفكر فيه إذ كان لم يأت إلا محولا عن وجهه مرات لا مرة واحدة ".
لقد وضع الرافعي إصبعا من ذهب على نقاط طالما ارتأى الكثيرون أن تبقى في الظل.. أو أنهم كانوا يفتقدون للشجاعة التي تجعلهم يخوضون في مثل هكذا مواضيع مركبة تركيبا عنكبوتيا..
غير أن الرافعي.. فصل هنا بالبيان الوافي أشياء عديدة.. على أنه لم يمنع إمكانية وجود القدرة على الإبداع لدى الأقلام المجتهدة التي تكابد في الأدب و تبحث في ثناياه.. و ترتقي في سلالم الإدراك الفكري من درجة إلى أخرى.. و ربما كانت هذه الإشارة المتميزة إلى التوليد مفتاحا من مفاتيح التطلع إلى ما هو أجمل و أرقى.