المقامات و المناظرات
لما كان النثر الجزائري الحديث قد ارتبط بالتراث العربي وخاصة في الأشكال التي ظهرت منذ القديم، فإنه من الطبيعي أن يكون شكل المقامة في هذا النثر، و أن يكتب الأدباء الجزائريون مقامات أدبية بصرف النظر عن مستواها الفني، كما أنه كان من الطبيعي أيضا أن يطوعوا هذا الشكل لأفكار جديدة تناسب العصر وأن يتجاوزوا وظيفة المقامة التقليدية – هي العناية باللغة العربية وأساليب البيان العربي فيها إلى نقد الواقع و رصد حركة المجتمع و تطوره الفكري و الثقافي و الاجتماعي كما حدث في بداية هذا القرن حين استخدم كثير من الأدباء العرب هذا الشكل للتعبير عن مشاكل المجتمع و قضياه مثل ( المويلحي) في ( حديث عيسى بن هشام) و غيره من الكتاب المحدثين.
و هناك كاتب جزائري ظهر في وقت مبكر و برع في اللون من الكتابة الأدبية و نوه الدارسون بآثاره في النثر و هو (محمد بن محرز الوهراني ) الذي كتب مقامات و منامات و رسائل أدبية صور فيها بصدق و بعبارة قوية بعض جوانب الحياة في المجتمع العربي في عصره (عصرالأيوبيين ).
و قد ظل ( الوهراني ) زمنا طويلا مجهولا بالنسبة للكثير من الدارسين، و لكنه في السنوات الأخيرة وجد من يعنى به و بآثاره، بل أصبح موضوعا لبحوث جامعية في الشرق العربي.
و الواقع أن الدارسين يفرقون بين (المنام) و (المقامة) فالأول غالبا ما يكون أشخاصه ممن تستحيل رؤيتهم مثل شخصية الرسول أو الصحابة، أما المقامة فإنها مستقاة من واقع الحياة و من واقع العصر الذي عاش فيه المؤلف.
و في العصر الحديث يمكن التمييز بين أنواع ثلاثة من المقامات في النثر الجزائري: المقامة الصوفية و الأدبية و الإصلاحية ثم الشعبية.
أما المقامة الصوفية فقد عبر فيها أصحابها عن نزعاتهم الروحية مثلما عبروا عن ذلك بالشعر.
و بعد (الأمير عبد القدر) ممن عالج الأمرين معا: الشعر و النثر الصوفيين و كتب ما يمكن أن يعتبر مقامة أدبية صوفية نشرها في كتابه (المواقف) و صور فيها الموضوع الذي أرق المتصوفة طويلا و هو موضوع (الحقيقة الإلهية) و كيف أنها تدرك بالذوق لا بالعقل، لذلك فإن البرهان عليها بالأدلة العقلية مستحيل.
المناظرة
المناظرة قد وجدت لا في النثر الجزائري الحديث فقط بل في الشعر أيضا، (فالأمير عبد القدر) فاضل بين البادية و الحاضرة بقصيدة و انتصر فيها للبداوة في النهاية.
وبالنسبة للنثر فإننا لم نعثر على هذا الشكل الأدبي قبل مناظرة الشيخ (عبد الرحمن الديسي) التي أطلق عليها مناظرة بين العلم و الجهل.
على أننا لا نستبعد إطلاقا أن يكون هناك من كتب مناظرات قبل هذا الأديب، لأننا ندرك أن الأدباء في القرن الماضي بوجه خاص قلدوا الأقدمين في الأساليب الأدبية شعرا و نثرا، مثل الرسائل و الخطب و الرحلات و المقامات و غيرها كما سبق لنا القول.
و لا شك أن الأشكال الأدبية تظهر لحاجة ملحة في نفس الكاتب و المجتمع معا و تتطلبها البيئة الثقافية و الاجتماعية أو السياسية و الأدبية، فقد يكون الواقع سببا من أسباب ظهور هذا اللون أو ذاك من الأدب كأن تكون الرغبة قوية في استحداث طريقة جديدة للتعبير بعد أن يمل الناس الطريقة المألوفة في عصر الأديب فتصبح لا تثير في النفوس انفعالا.
كذلك فإن السياسة قد تلعب دورا في وجود شكل معين غير معروف من قبل مثل الضعف و مصادرة الرأي، فيأتي الكاتب ليبدع طريقة جديدة خاصة به يعبر بها عن رأيه و فكره دون خوف أو عقاب.
و قد يكون الدافع للبحث عن شكل جديد هو الواقع الاجتماعي الذي يتطلب أسلوبا خاصا لمعالجة مشاكله يجذب القارئ و يتفق و ذوق القراء و ميولهم ، كما أن البيئة الثقافية تلعب دورها في انتشار لون من ألوان الأدب، فقد ينتشر الشعر في فترة أكثر من انتشار النثر م العكس صحيح أيضا.
و فيما يتصل بأسلوب المناظرات في النثر الجزائري الحديث فإنه في تصورنا تقيد للقديم لأنه يجاري ما عرف لدى القدماء من أساليب، و في الوقت نفسه يدل على أن هذا الشكل طوع للتعبير عن قضايا أحس الكاتب بأنها جديرة بالمعالجة.
و إلى جانب أن استخدام هذا الأسلوب يبدو مشرقا نسبيا بالقياس إلى المقال الصرف الذي لا يعتمد على حوار أو سرد قصصي أو مفاضلة بين أمرين، فضلا عن إيثار البراعة اللفظية و التلاعب بالكلمات.
و إذا كنا لم نعثر على هذا الأسلوب في القرن الماضي سوى عند (الديسي) فإن طريقة المناظرات الدينية معا قد انتشرت في بداية القرن العشرين لأسباب كثيرة سنعرض لها في حينها..
على أن الأسلوب القصصي فيما أشرنا سواء في المقامة أو في المناظرة قد مهد لظهور القصة القصيرة وأعد المناخ لها، كما أنه أسهم في تطور اللغة و الأدب معا بالرغم من ارتباطه بالتراث من حيث الشكل، و لكنه ساعد على بقاء اللغة القومية أداة للتعبير من جهة، و عالج موضوعات شتى، لها صلة بواقع المجتمع و الإنسان في القرن الماضي.