الأحداث الغريبة والحزينة التي حدثت بين محمد العطوان وناطق بن أمّونه
حدثني محمد العطوان , قال:
عدت الى أهلي في كرخ بغداد , بعد سفر تجارة وطول ابتعاد، وكنت مزهواً بما أنجزت من أعمال , ومفتخرا بما كسبت من أرباح وأموال، و أحببت ان أدخل بيتي كعادتي مملوء اليدين , وخاصة بعد أقتراب العيدين. فعرجت على سوق البزّازين (القمّاشين ) وأخذت أفتش في دكاكينهم بحثاً عن حاجتي , حتى وجدت لدى أحدهم ضالتي؛ حيث أعجبني نوع من قماش القطيفة الفاخر, والذي يدعو عند خياطته ولبسه للزهو والتفاخر، فأشتريت من هذا القماش الغالي , مايكفي لأمي وزوجتي وأطفالي، وجعلها القمّاش رزمة في الحال , فأخذتها ونقدته المال ، وقفلت لبيتي راجعا , ولأنفي بين الناس رافعا .
فصادفني شيخ فقير, بملبس حقير .. مد يده المعروقة مستجديا بذلّ وصغار، فرشقته بنظرة استصغار , وخاطبته بكبر وأحتقار، وقلت: أليس لك أولاد يعينونك , وعلى ما تفعل يلومونك ؟
أجابني بحزن ومرارة : أتمنى من كل قلبي لو يلومونني , وأفرح لو من لحيتي يجرونني .. ثم استغفر الله وقال: ياسيدي كانوا ثلاثة , ولكن أصحاب الزرقاوي قتلوا منهم أثنين , وفقؤوا لثالثهم العينين..
بهت لأجابته , وأفحمتني مقالته ، ولم يدع لي فرصة للأعتذار , عمّا أبديته من تحقير واستصغار؛ فقد مال عني وأسرع بالأختفاء , فندمت على ما أظهرت من تكبّر وجفاء.
وما ان دخلت محلتنا التي كانت وديعة , حتى تناهت لسمعي تراتيلٌ لأيات قرآن كريم , بصوت عذب رخيم . وبان لي من بعيد , سرادق عزاء ينصب , وأناس من كل حدب اليه ترغب.
فسالت أحد المارة ممن أعرف : لمن ذاك العزاء ؟ قال : لأحد الأعزاء ! قلت : ومن المنكود ؟ أجاب : هو أبو عبد الله بن محمود .. قلت أتقصد المختار ؟ قال , هو بعينه؛ فقد أرسله لحتفه الإرهاب , ولا تخفى على أحد الأسباب.
فاسترجعت اسم الله مرارا .. و دخلت سرادق العزاء , وأنا أجهش بالبكاء , بعد أن تذكرت مقتل أخي ضياء ..
و جلست , ولسورة الفاتحة قرأت ..
وإذا بصديقنا القديم (ناطق بن أمّونة ) يجلس قربي , ويخفف عني ويذكرني رحمة ربي ..
وبعد أن هدأت , سألته عن الأمور والأحوال .. فتبين أن العسر معه قد طال , وأنه في أحوج الأوقات للمال ..
ولمح رزمة القماش في يديّ , فسألني عمّا لديّ ؟ قلت هو قماش أحمله , ولعيالي قبل العيد أثواب أعمله. فقال بلطف : وهل لي فيه نصيب ؟ فأجبته بجفاء : وهل أنت لي ولد أو نسيب ؟!
فأمتعض قليلا من إجابتي الحادّة .. ونظر إلي نظرة جادّة ، ثم غادر وهو يقول : شكراً ، وما زاد , ولكنه مع أكبر ولد المختار قد عاد، وابتدأ الكلام بعد السلام ، قائلا له :
إن هذا السيد المهموم , قد كان صديقا لوالدك المرحوم , وهو لموته مهظوم , ولفراقه مكلوم , ولمصابكم مغموم , و قد أحضر قطع قماش لأخوتك الصغار , و أحسن في أنواعها وألوانها الاختيار، وهو يرجو أن تتقبلها منه ولا تعيد ، وتخيطها لهم ثيابا في العيد .
ثم أخذ مني كيس القماش المرزوم , وسلمه لابن المرحوم ، وأنا مذهول , لا أعرف ما أقول , فأخذ الولد الرزمة , بهمّة , وهو يقول : ولماذا تكلف نفسك يا عمّ , و شكراً على مشاركتنا الحزن والهمّ .
ومال ابن أمّونة عليّ , وهمس في أذنيّ ، وقال : هذا جزاء كل متكبر ويده الى عنقه مغلولة ، وعن مساعدة الفقير والمحتاج مشلولة.
وتركني فاغراً فمي , وعليه من شدة الغيض أكاد أرتمي ، و ترجى الناس كعادته , وسألهم أن يصغوا الى مقالته , وما أن بدأ خطبته ، حتى تركت السرادق , وأنا آسف لما سبب لأموالي من ضياع ، وأفكر كيف أردُّ له الصاع ..
وعدت لسوق القمّاشين، وتوجهت لنفس القمّاش، فسألته عن نفس القماش ..
فرحب بي وسألني : وأين ما بعتك قبل ساعة ؟ قلت : تصدّقت به على جماعة.
فقال : باركك الله .. وسكت. ثم نظر إليّ وقال : سأجاريك في الإفضال , فتهللت وسألت : وكيف ؟ هل ستهبني بعض القماش مجانا , أم ستسامحني في القيمة أحيانا .. ؟ فقال : لا هذا ولا ذاك , وانما سوف لن أبيعك اليوم شيئا . فأستغربت ! وسألته : ولمَ ؟ فقال هو مالي وأنا حر , أبيع ما أشاء , لمن أشاء , ومتى أشاء. فقلت : ولكنه باب رزق إليك الله قد ساقه , فلم تريد أغلاقه .. ؟
فأجاب :
ما يغلق الناس باب الرزق عن أحدٍ : سيفتح الله بعد البــاب أبوابـــــا
فبقيت مشوشاً لأني ما زلت اعاني من الصدمة , بعد ضياع الرزمة ، فلما رآني حائرا، قال: أنظرالى جاري ذاك النائم , فأقماشه لأقماشي توائم ، فاذهب واشتري منه ما تريد, وسيبيعك بنفس الثمن ولايزيد ( وأشار الى دكان مقابل دكانه ,وصاحبه متكيء وغاف على خوانه )
فقلت بصوت عال : والله سوف لن أتزحزح عن هذا المكان , حتى أفهم لماذا ترفض بيعي ولماذا أهان ؟ فتوسل اليّ أن لا أرفع صوتي وأوقظ جاره. فقلت: إن لم تخبرني فسأرفع عقيرتي بالصياح , وأوقض حتى من فارقتهم الأرواح . فقال : أرجو أن تفهم ياسيدي أنها ليست إهانه ، بل هى مساعدة وإعانه. قلت: وكيف ؟ قال: أحببت أن أعين جاري ذاك الذي تراه نائما , فإنه من قلّة الناس , قد مال مع النعاس , ولم يستفتح البيع هذا اليوم, حتى غلبه النوم, وهو صاحب حمل ثقيل , فله من البنات خمس، ورزقه الله السادسة أمس، و كما تعلم ياسيدي فقد رزقني الرزاق اليوم مايكفيني، وساق لي من الأرباح ما يرضيني ( وسكت ) ..
فأعجبتني مروءته وبهرتني شهامته. وسألته : وما اسم الكريم ؟ أجاب: (حجي فالح ) .. فتذكرت صاحبنا (حجي صالح )، وكنت قد سمعت أن له أخاً يعمل قمّاشا. فقلت: وهل تكون شقيقاً لـ(حجي صالح ) ؟ أجاب: نعم؛ أنا أخوه فالح. قلت: وكيف تجري معه الأمور ؟ قال: بنعم الله راضٍ ومسرور.
فغادرت باتجاه دكان القمّاش النائم, وأنا متحير بين فصاحة ومروءة ( حجي فالح ) و لؤم وصفاقة ( ابن أمّونة )، وأنشدت :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا : وأقبح الخبث والإفلاس بالرجلِ
وبعد أن اشتريت ما أردت ووعيت الفكرة, وأخذت العبرة، بحثت عن الشيخ الفقير الذي احتقرته، حتى وجدته، فنقدته مالا وأكرمته، وسألته السماح حتى سامحني , وأعتذرت منه حتى عذرني.
وعدت لمنزلي أفكر بما مرّ بي اليوم معتبرا , ولرب العزة عن الكبر والزهو وتحقير الناس مستغفرا ..