عمر المختار.. الرواية الخالدة
في البدء أقول شكراً للمخرج الراحل مصطفى العقاد صاحب فيلمي الرسالة، وعمر المختار؛ فقد أدى رسالته على أكمل وجه، ثم رحل وهو يقول لنا إن أمتنا بخير، وإن الخير سينتصر، وإن الظلام وإن طال فإن الفجر سيأتي يوما يحمل البشرى، وإن أيدي الغدر التي اغتالته تقصر عن إعاقة رسالته السامقة.
فشكرا عزيزي العقاد وإن لم تخرج لنا إلا التحفتين الفنيتين (الرسالة، وعمر المختار) فأنت أول من يعلم أن الرسالة وصلت، وستتواصل، وأن البطولة لم يحن وقت موتها بعد.
ما يدفعني لكتابة ذلك هو أنني كلما فرغت أهرع لمشاهدة فيلم عمر المختار، كلما شاهدته مرة أتوق لمشاهدته مرات ومرات؛ وذلك لأنه يضرب بكل رقة على الوتر الحساس في نفسي، وربما في نفس كل إنسان يتوق إلى الحرية، والعدل، والكرامة، ومحاربة الاستبداد والاستغلال.
المختار شيخ يدرس القرآن للناشئة، ويمثل المرجعية الدينية لقومه، وعندما دخل الغازي المستعمر ليبيا، وبدأ في انتهاك الأعراض والحرمات، وتعذيب العباد، وغيرها من مظاهر الاستعمار جديده وقديمه - فالقوم سواء؛ ما دخلوا بلادا إلا وجعلوا أعزة أهلها أذلة؛ وما العراق وأفغانستان عنا ببعيد
إن مصطفى العقاد أراد أن يقول الكثير في فيلمه هذا؛ فتناول بعض القضايا في صراحة، وترك البعض الآخر لمن كان له لبّ، تناولها على المستويين الفردي والجماعي؛ فهو كأنما يقول: لكي يكون الفرد الواحد منا أمة فعليه الكثير؛ وليس له مقابل ذلك إلا الخلود المعنوي.
تقول إحدى لقطات الفيلم: إن المختار شيخ يدرس القرآن للناشئة، ويمثل المرجعية الدينية لقومه، وعندما دخل الغازي المستعمر ليبيا، وبدأ في انتهاك الأعراض والحرمات، وتعذيب العباد، وحرق المزارع، وتدمير العمران، وغيرها من مظاهر الاستعمار جديده وقديمه - فالقوم سواء؛ ما دخلوا بلادا إلا وجعلوا أعزة أهلها أذلة؛ وكذلك يفعلون؛ وما العراق وأفغانستان عنا ببعيد - عندها هب الشيخ المختار لرد العدوان، ودحر الطغيان الذي جثم على الصدور؛ وهكذا نجد أن جميع حركات التحرر ضد المستعمر - منذ ذلك الزمن وإلى اليوم - تستمد أفكارها وروحها من روح الإسلام، والشواهد على ذلك لا تحتاج إلى إثبات!!.. إن مشاهد الفيلم تحمل قيما ورؤى نحتاج لها دوماً:
- أين زوجي؟!..
- لقد جلبت لك كتابه.. لم يلن لهم ظهره أبدا.
- أيها الصغير! ما اسمك؟!.. هذا لك!!.. هذا كتابك الآن!.. قل لأمك أن تحفظه لك!!..
- لا تدعيه يراك وأنت تبكين!!..
- لماذا يا مختار يا عظيم؟!.. أتريد أن يذكرنا الأطفال أقوياء؛ واثقين؛ لا بائسين؛ لأنهم يوما سيستمرون في القتال؟!.
- يقول المختار: (لا حق لأمة في احتلال أمة أخرى).. رحمك الله يا مختار؛ إنها عبارة حق؛ خرجت من لسان ينطق بالحق؛ لرجل حق؛ أراد أن يعيد الحق لأمته.
وصف أموال الغرب التي يهرول إليها هؤلاء لينالوا من نصيبهم جزاء خدمة العمالة والارتزاق: (أموالكم تماما كأمجادكم ليست خالدة)
- رحمك الله يا مختار؛ وأنت لم تر كيف يهرول بعض الناس تجاه الفانية؛ وينسون الباقية؛ ويبذلون في ذلك الغالي والرخيص؛ حتى وإن كان ذلك على حساب العقيدة، والأرض، والعرض.. وصدقت حين وصفت أموال الغرب التي يهرول إليها هؤلاء لينالوا من نصيبهم جزاء خدمة العمالة والارتزاق: (أموالكم تماما كأمجادكم ليست خالدة).. (حبل عداوتكم يا جنرال كان يتدلى دائما أمامي).. وليت المفاوضون منا يسمعون كلماتك: (أنتم لم تفاوضونا من أجل السلام؛ بل أردتم كسب الوقت، وتنظيم الصفوف).. فما أشبه الليلة بالبارحة!، وانظر بماذا اتهموه عند محاكمته: (عمر المختار! أنت متهم بالتمرد والعصيان ضد الحكومة الشرعية بالبلاد لمدة عشرين عاما).. إنها حالتنا اليوم بالضبط.. فقط الذي تغير هو هذه الجملة الطويلة لتصبح كلمة واحدة تدق بها كل الرؤوس التي لم تنحن وهي (الإرهاب)، ونطقت محكمة العدل الدولية آنذاك بالإعدام شنقا حتى الموت على المختار (الإرهابي)، وعندما تم شنقه قوبل ذلك بالزغاريد من النساء، والتهليل والتكبير من الرجال؛ وهي مظاهر تصاحب استشهاد العظماء في أغلب الأحيان (نحن لن نستسلم؛ ننتصر أو نموت.. أما أنا فحياتي ستظل أطول من حياة شانقي).
- إن العقاد أراد أن يقول في ختام الفيلم: إن الرسالة التي حملها المختار ومن هم قبله ستنتقل في هذه الأمة جيلاً بعد جيل؛ وذلك من خلال مشهد الطفل الذي أخذ نظارة المختار، ولكن يبدو
الفيلم في مجمله مرافعة تاريخية رفيعة، ويبحث في تساؤلات لم تجد الإجابات الشافية بعد، وتقصي في حقائق صفات لا يحيد عنها الغرب مهما ادعى من تقدم في العلاقات والمفاهيم الإنسانية، ويوضح بجلاء أن طمس معالم الهوية للشعوب الإسلامية، ونهب واستغلال ثرواتها بمختلف المسميات كان ولا يزال يمثل الدافعية المحركة لعواطفهم غير البريئة باسم الإنسانية؛ فليتعظ أولئك النفر من أمتنا الذين يضعون أنفسهم تحت خدمتهم لتحقيق أغراض آنية تمثل العمالة والمصالح الشخصية وجهها الحقيقي، وليكن لهم في المختار وصحبه درس وعبرة؛ فالتاريخ لا يخلد الأفراد لذواتهم؛ وإنما يخلد ما حملوه من قيم ومعاني ضحوا في سبيلها (وعاشوا أطول مما عاش جلادوهم).. هكذا نطقت كلمات الختام في وقائع الرواية التاريخية الخالدة.
فهل يأخذ شعب ليبيا العبرة.....................