[أنقر هنا لتكبير الصورة]
بعد انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية مع نهاية سنة 2007 أصبح هناك سؤال ملح يطرح في الكثير من الأوساط وبشكل أساسي في الدول التي يسعى مواطنوها لسبب أو لآخر إلى الهجرة للبحث عن عمل في بلد ليس بلدهم، هو هل ستغلق أبواب الهجرة خاصة إلى دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا ؟ وما مصير الملايين من المهاجرين الذين يعملون في هذه الدول بعد أن أصبح مئات الآلاف منهم عاطلين ؟.
غالبية المهاجرين الأوائل ابتداء من عقد الخمسينات في القرن العشرين كانوا من الشباب العاطل كليا عن العمل، ونتج عن هجرتهم تخفيف الضغط على سوق العمل في بلدانهم الأصلية واستخدام أفضل للموارد مما رفع من الإنتاجية الحدية للعمالة.
شبح عودة ملايين المهاجرين إلى بلادهم الأصلية لا يهدد البنية الاقتصادية فقط لأسر هؤلاء بل كذلك اقتصاد أوطانهم الذي تأقلم ونما وسدد جزء من ديونه بفضل مئات ملايير الدولارات التي يحولونها.
لقد أصبح البقاء الاقتصادي ورخاء الأسر في غالبية دول تصدير العمالة يعتمد على وجود أفراد منها في المهجر من أجل العملات الصعبة التي تترجم إلى دخول مريحة، وبمعنى آخر فإن «بلدان المهجر للبعض كانت مجال يبني فيها المرء نفسه ليكون جاهزا لميلاد اجتماعي جديد، وليعود المهاجر الناجح إلى بلده كمواطن من طبقة أعلى يحوز الاحترام لثروته».
تقرير دعمته الأمم المتحدة أفاد المهاجرين من مختلف أنحاء العالم يرسلون بشكل رسمي لأوطانهم 150 مليار دولار سنويا. في حين تصل المبالغ التي تحول بطرق غير رسمية إلى نحو 300 مليار دولار سنويا.
دراسة حديثة للبنك الأوروبي للاستثمار أفادت أن حجم التحويلات المالية الرسمية التي يبعث بها المهاجرون العرب في أوروبا إلى بلدان جنوب وشرقي البحر المتوسط تبلغ في المتوسط سنويا 21.1 مليار يورو. والواقع أن المبلغ يتضاعف عدة مرات بسبب تفضيل هذه الفئة من المهاجرين تحويل الأموال عبر قنوات تقليدية لا يشملها الإحصاء.
من جانب آخر بينت دراسة للبنك الدولي ان الهند والصين والمكسيك هي أكثر الدول استفادة من تحويلات المغتربين. ووصلت هذه التحويلات في 2008 إلى 52 مليار دولار، و40.6 مليارا، و26.3 مليارا إلى الدول الثلاث تباعا.
تياران
هناك أجوبة عديدة على السؤال الخاص بمصير الهجرة، بعضها يتوقع أن تتصاعد حاجة الدول التي توصف بجنات المهاجرين، وذلك بعد أن يستعيد الاقتصاد فيها عافيته، وهناك من يقدر أن السنوات الذهبية للهجرة قد ولت وأنه سيتم التعامل مع الهجرة في السنوات القادمة على أساس انتقائي. والمقصود بالهجرة «الانتقائية»، هو ترك باب الهجرة مفتوحا أمام فئات محددة من المهاجرين، وفقا لحاجات القطاعات الاقتصادية المختلفة والخروج من ما سماه البعض حالة الهجرة المفروضة، التي عرفتها عدة دول على مدى العقود الماضية.
في أوروبا كما في الولايات المتحدة تياران، أحدهما يريد تواصل الهجرة بمعدلات مرتفعة، وآخر يريد تقليصها إلى أدنى درجة وتركيزها على الدول التي لها تجانس ديني وعرقي مع سكان الدول المستقبلة.
يوم الأربعاء 31 مارس 2010 تم عرض مشروع قانون للهجرة على مجلس الوزراء الفرنسي، اعتبره الملاحظون مؤشرا على توجه فرنسا إلى مزيد من التشديد لشروط الدخول الى اراضيها، وتسهيل عمليات ترحيل الاجانب الذين لا يملكون اوراق اقامة ودعم سياسة «الهجرة المنتقاة».
وجاء مشروع القانون وهو الخامس حول دخول الأجانب وإقامتهم في غضون سبع سنوات، أثر قرار قضائي مضاد لاجراء إتخذه وزير الهجرة اريك بيسون. ففي يناير تم إطلاق سراح 123 سوريا كرديا وصلوا بشكل غير شرعي إلى جزيرة كورسيكا وتم اقتيادهم إلى مراكز احتجاز. واعتبر القضاء أنه لا يجوز حرمانهم من حريتهم.
وفي عملية دمج لثلاثة توجيهات أوروبية في القانون الفرنسي، نص مشروع القانون الجديد على اقامة منطقة انتظار موقت للاجانب الذين يدخلون البلاد من غير المعابر الحدودية الشرعية.
ومنذ سنة 1992 توجد في فرنسا 50 منطقة انتظار دائم. وحين يدخل أجنبي بشكل غير شرعي البلاد ويضبط يتم الابقاء عليه في أحدها لحين يختار مغادرة البلاد أو لحين تقرر السلطات أنه يمكن منحه حق اللجوء أو يجب ترحيله.
وينص مشروع القانون على زيادة مدة الاحتجاز للاجانب القابلين للترحيل من 30 الى 45 يوما كما ينص على امكانية تضمين قرار الطرد المنع من دخول الاراضي الفرنسية لفترة يمكن ان تمتد الى ثلاث سنوات.
ومن مؤشرات التشدد في مشروع القانون تنصيصه على انه حتى في حال حيازة تأشيرة سارية المفعول، يمكن اقتياد اجنبي الى الحدود اذا كان يشكل تهديدا للأمن العام، وهو مفهوم مطاط تم استخدامه كيرا لأغراض سياسية، من جهة اخرى سيتم اشتراط التوقيع على «ميثاق حقوق وواجبات المواطن» لكل حائز على الجنسية الفرنسية. كما أن عدم احترام المهاجر لعقد الاستقبال والاندماج الذي يتعهد فيه بالخصوص بتعلم اللغة الفرنسية واحترام القيم الجمهورية، يمكن أن يؤدي إلى عدم تجديد إقامته لمدة عام. ونص مشروع القانون على عقوبات جزائية ومالية وادارية ضد الاشخاص والمؤسسات التي توظف اجانب لا يملكون وثائق إقامة.
الهجرة والتوترات
مع بداية سنة 2010 دعا رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون الأحزاب الرئيسية في بلاده إلى تشكيل جبهة موحدة ضد الذين قال إنهم يعارضون الهجرة لأنهم لا يحبون المهاجرين.
وقال براون «آمل أن يكون هناك نوع من التوافق بين التيارات الرئيسية في السياسة البريطانية حيال الهجرة، بمعنى أن لا أحد منا يتفق مع أولئك الراغبين باغلاق بريطانيا في وجه المهاجرين، ومع الساعين إلى استخدام قضية الهجرة لاذكاء التوترات في المجتمع البريطاني واعتبارها أمرا سيئا».
ودعا الأحزاب البريطانية الكبرى إلى «الوقوف معا في الأسابيع المقبلة وتشكيل جبهة موحدة ضد الذين لا يقدرون أهمية التنوع الثقافي في المجتمع البريطاني، وضد المطالبين بوضع حد للهجرة ليس بسبب الضغوط التي تسببها لبلادنا، بل لمجرد أنهم لا يحبون المهاجرين».
لكنه شدد في المقابل على أهمية معالجة مخاوف الناخبين البريطانيين بشأن تأثير الهجرة على جالياتهم وأيد فتح نقاش مفتوح ومسؤول حول الهجرة، مشيرا إلى أن حكومته شددت في الآونة الأخير القيود المفروضة على الوافدين الجدد إلى بريطانيا.
واعلن براون أن حكومته ادخلت تغييرات على نظام النقاط المتعلق بالشروط التي تخول المهاجرين الأقامة في بريطانيا، أزالت بموجبها مهنتين هما خدمة الرعاية الصحية والمطاعم.
تداخل
يوم الثلاثاء 30 مارس 2010 قرر الاتحاد الاوروبي تبسيط وتسريع اجراءات منح تأشيرات شنغن للإقامة القصيرة اعتبارا من الخامس من ابريل وذلك لتبديد صورة «أوروبا الحصن» التي اكتسبتها من الرفض التعسفي لطالبي تأشيرات الدخول هذه.
وقالت المفوضة المكلفة الشؤون الداخلية سيسيليا مالستروم في بيان ان «شروط منح تأشيرة شنغن ستصبح أكثر وضوحا ودقة وشفافية وانصافا». ويتعلق الأمر بالتأشيرات القصيرة المدة أي ثلاثة أشهر كحد أقصى في خلال فترة ستة أشهر.
وقد تم تسليم أكثر من عشرة ملايين تأشيرة شنغن عام 2008 منها 7.1 مليون لألمانيا و7.1 لفرنسا و2.1 لايطاليا.
وقال مسئول في المفوضية ان «الطلبات ستعالج كالعادة بواسطة قنصليات الدول الاعضاء». معترفا بأنه «في السابق لم يكن الأمر سهلا دائما. كان يتيعن الانتظار شهرين لمعرفة القرار ولا يتم تقديم أي تفسير في حال الرفض ما كان يثير شعورا بالإحباط والغضب ويعطي الإتحاد الأوروبي صورة «اوروبا الحصينة» السيئة».
ولا توجد حتى الآن تأشيرة شنغن منفردة. فكل تأشيرة تمنح من قنصلية دولة يكون معترف بها من قبل الدول الأخرى الأعضاء في فضاء شنغن أي دول الاتحاد الأوروبي (باستثناء بريطانيا وايرلندا) إضافة الى النرويج وسويسرا وأيسلندا.
ويقضي القانون الجديد الذي بدأ العمل به في الخامس من ابريل ب»التعامل مع الطلب خلال 15 يوما» وبأن يكون «الرفض مبررا» كما يتيح أمام طالب التأشيرة إمكانية تقديم طعن. وتبقى التعريفة العامة «ما بين 60 الى 35 يورو للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاما».
ويتيح القانون الجديد لأي دولة في مجال شنغن إمكانية عدم التقيد بهذه القائمة «لأسباب إنسانية» أو «لالتزامات دولية».
إلا أن التأشيرة الممنوحة في هذه الحالة لا تكون صالحة لمجال شنغن وتقتصر على الدولة المانحة.
وتستطيع دولة أو أكثر قبول اعتماد هذه التأشيرة لدخول أراضيها لتمكين حائزها من الوصول إلى جهته النهائية.
من جهة أخرى يستطيع رعايا الدول غير الأوروبية الحاصلين على تأشيرة إقامة طويلة (من ثلاثة اشهر إلى سنة) التنقل بحرية في باقي دول منطقة شنغن بالشروط نفسها المطبقة على المهاجرين الحاصلين على تصريح إقامة.
وعمليا يتعلق الأمر أساسا بالطلبة والعلماء والأشخاص الذين يزورون عائلاتهم المقيمة في اوروبا لكنه قد يشمل أيضا العمال الموسميين الذين لا يستطيعون حاليا الإقامة سوى في الدولة الأوروبية التي منحتهم تأشيرتها.
وقود النمو السكاني
يقول أنصار الهجرة المكثفة أن المهاجرين هم وقود النمو السكاني الذي يخلص اوروبا من الانقراض بسبب التقلص الخطير في الإنجاب والذي لا يعوض الوفيات. حيث إن معدل 2.1 طفل لكل امرأة هو المطلوب للإبقاء على عدد السكان ثابتا بتعويض الوفيات، وهذه النسبة غير متوفرة في جل دول الإتحاد.
وتتوقع الأمم المتحدة أن يمثل المهاجرون مصدر أي نمو سكاني تشهده معظم الدول المتقدمة وخاصة في اوروبا على مدى الأعوام الثلاثين القادمة.
والاستثناء هو الولايات المتحدة حيث تجاوز عدد المواليد الوفيات في سنة 2009 بواقع 1.7 مليون سنويا لأسباب منها العدد الكبير للمهاجرين والنمو الكبير للأقليات في البلاد. وقال ارميندو ميراندا بإدارة السكان في الأمم المتحدة أنه بحلول عام 2050 سيتقلص عدد المواليد في الولايات المتحدة ولن يتجاوز على عدد الوفيات إلا بواقع 500 ألف سنويا.
وجاء في تقرير لإدارة السكان بالأمم المتحدة يمثل الأساس لعمل لجنة خبراء بشأن سياسات الهجرة العالمية انه «اذا استمرت الاتجاهات الحالية في الفترة بين 2010 و2030 فان صافي عدد المهاجرين سيمثل على الأرجح كل نسبة النمو (في الدول المتقدمة)».
لكن الدراسة قالت إن الهجرة لن تكون الحل الأمثل لانخفاض معدلات المواليد ونمو عدد السكان في أوروبا وأماكن أخرى لان المهاجرين يميلون الى التكيف في سلوكهم مع الشعوب في وطنهم الجديد أي أن نسبة خصوبتهم تتقلص تدريجيا.
وبسبب مستويات الخصوبة المنخفضة للغاية في اوروبا لم تنجح هجرة الأجانب إليها في السنوات الأخيرة في تعويض زيادة عدد الوفيات على عدد المواليد بواقع 1.1 مليون سنويا.
وبحلول عام 2050 يتوقع إذا لم تتغير المغطيات الحالية، ان تغطي الهجرة أقل من ربع العجز في المواليد حيث يتوقع ان ينخفض عدد السكان في أوروبا بواقع 2.5 مليون شخص سنويا.
وأشارت الدراسة إلى أن بعض دول شرق وجنوب أوروبا تعد من بين أكثر الدول في أوروبا التي تعاني من تراجع كبير في النمو الديمغرافي، ذلك أن مناطق مثل شرق بولندا وجنوب المجر وشمال إسبانيا وجنوب إيطاليا تعاني بصفة كبيرة من تراجع النمو الديمغرافي وهجرة السكان إلى المدن الكبرى بحثا عن عمل وعن حياة أفضل، إلى درجة أنها أصبحت مناطق شبه مهجورة لا يقطنها سوى المتقدمين في السن.
وقالت ريتا سويسموث الرئيسة السابقة للبرلمان الألماني في مؤتمر صحفي «هل سنتلقى خلال بضع سنوات عدد المهاجرين الذي نرغب فيه وهل ستكون هناك منافسة».
وقالت «وحتى اذا كانت هناك مشكلة سكانية فإننا نحتاج إلى مهاجرين» لأسباب اقتصادية ولأغراض التجديد.
وأفاد التقرير إن 191 مليون شخص تم تصنيفهم على أنهم مهاجرون في عام 2005 يقيم منهم ستة من كل عشرة في الدول المتقدمة بينما يقيم واحد من كل خمسة في الولايات المتحدة.
وذكرت هانيا زلوتنيك مدير ادارة السكان بالأمم المتحدة انه رغم المناقشات الساخنة في الولايات المتحدة بشأن الهجرة غير الشرعية من المكسيك فان العديد من الدول الغنية أثناء الازدهار الاقتصادي في التسعينات احتاجت إلى مزيد من العمال المهرة وغير المهرة وبدأت برامج لاجتذابهم.
وقد دفع انخفاض حاد في عدد السكان في ألمانيا منذ 1972 ومخاوف من تفاقم هذه الظاهرة خبراء السكان للتحذير من عواقب وخيمة.
فقد انخفض عدد الألمان بمقدار 3.2 مليون -وهو ما يعادل عدد سكان برلين- خلال الثلاثين عاما الماضية لكن مخاوف خبراء السكان كان يجري تجاهلها في أغلب الاحيان حتى الان في دولة فرضت عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية عدم تبني السياسة السابقة للرايخ والهادفة إلى تشجيع زيادة معدلات الإنجاب.
وقال هارالد مايكل مدير معهد العلوم السكانية التطبيقية «الألمان مهددون بالانقراض إذا استمر هذا الاتجاه». وهو يخشى ان يتقلص عدد سكان ألمانيا من 75 مليونا إلى 50 مليونا بحلول عام 2050 وبدرجة أكبر بعد ذلك.
وتشهد ألمانيا منذ فترة طويلة واحدا من أدنى معدلات المواليد في دول الاتحاد الأوروبي بلغ 1.3 طفل لكل امرأة.
أكثر من 30 بالمائة من الألمان الشرقيين والغربيين الذين ولدوا من عام 1960 إلى عام 1967 لن ينجبوا. وترتفع النسبة إلى 38 بالمائة بين الألمان الأعلى تعليما.
وقال نوربرت فالتر كبير الاقتصاديين في دويتشه بنك «كل جيل يقل بمعدل الثلث».
وأضاف «اعتقد ان من المبالغة القول بأن الألمان مهددون بالانقراض. لكن عندما ينخفض عدد سكان دولة من 80 مليون نسمة إلى 60 مليون نسمة في مرحلة ما مقبلة فإنها ستصبح دولة مختلفة تماما».
عنصرية وتطرف
تعاني دول أخرى من انخفاض معدل المواليد منها ايطاليا وروسيا واليابان حيث قالت صحيفة «يوميوري» اليابانية اليومية في شهر فبراير 2010 أن متوسط عدد الأطفال الذي تنجبه امرأة واحدة خلال حياتها هبط إلى مستوى قياسي عام 2005.
في مارس 2010 ذكر تقرير للبنك الدولي حول الاقتصاد الروسي أن موسكو ستحتاج خلال السنوات العشرين المقبلة إلى 12 مليون عامل من المهاجرين، لتعويض تقلص موارد العمل. وجاء في التقرير «من الضروري أن تدرس روسيا قضية اتخاذ إجراءات طموحة للارتقاء بمستوى جاذبيتها للمهاجرين، وتجدد تدفق القوى العاملة».
دراسة ألمانية أظهرت الدراسة أن البلدان الاسكندنافية وفرنسا تمكنت من تحقيق موازنة ديمغرافية جيدة، ذلك أن النساء بصفة عامة في هذه الدول لا يواجهن صعوبة الجمع بين العائلة والعمل معا. ويعود ذلك إلى السياسة العائلية التي اتبعتها حكومات هذه الدول منذ سنوات، حيث إنها قد حرصت على توفير عدد كاف من دور الحضانة المؤهلة لرعاية الأطفال الرضع والأطفال الصغار، وبالتالي تمكين الأمهات من العودة بسرعة إلى الحياة العملية بعد فترة الولادة.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية شكلت الهجرة من جنوب المتوسط المورد الأساسي لليد العاملة المهاجرة التي ساهمت بقسط وافر في إعادة بناء أوروبا، هذه اليد العاملة كانت في الغالب عربية ومسلمة. وقد عمل اليمين المتطرف في القارة الأوروبية وجماعات الضغط الصهيونية خاصة في العقد الأخير من القرن العشرين على إثارة الكراهية ضد هذه الفئة من المهاجرين وأستغلت عوامل مختلفة بعضها موجه مثل التطرف ورفض الغير والتخلي عن التسامح، من أجل تشجيع توجهات لرفض المهاجرين العرب والمسلمين بدعوى أنهم يهددون الإستقرار والأمن والهوية الوطنية. بل وذهب البعض إلى القول أن غالبية سكان أوروبا سيصبحون عربا ومسلمين مع مدخل القرن الثاني والعشرين.
الذين روجوا لما أصبح يسمى الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية حاولوا أن يفرضوا على مواطنيهم النظر إلى المسلمين على أنهم مجموعة واحدة تؤمن بالتشدد وبالفهم الاختزالي للإسلام، وهم منخرطون في حركة سياسية عالمية لفرض هذه الرؤية على الآخرين في حرب حضارية لا تتوقف.
توسع هذه الرؤيا شجع بعض سياسي أوروبا في فترة ما بعد سقوط حائط برلين إلى التوجه للبحث عن اليد العاملة المهاجرة في دول شرق أوروبا التي كانت جزء من الكتلة الاشتراكية، غير أنه بعد سنوات من هذا التوجه انتهى هذا الرهان ذلك أن شرق أوروبا تمكنت من العودة إلى مرحلة النمو وأصبح حجم اليد العاملة الفائض لديها في تقلص زيادة على أنها تعاني مثل غرب القارة من تدني نسبة النمو الديموغرافي.
وقد أظهر استطلاع أجري سنة 2010 أن غالبية كبيرة من البريطانيين يعتقدون أنه يتعين أن يكون هناك حد أقصى سنوي للهجرة لتفادي «فقدان البلاد ثقافتها الخاصة».
وأشار الاستطلاع الذي أجري لصالح مؤسسة «اميغريشن ووتش» البحثية، إلى أن 69 في المائة من ألفي شخص استطلعت آراؤهم، أعربوا عن مخاوفهم من أن تفقد بريطانيا ثقافتها الخاصة.
وفي معرض ردهم على ما إذا كان يتعين أن يكون هناك حد سنوي لهجرة الأجانب القادمين إلى بريطانيا، قال 50 في المائة أنهم يوافقون تماما على ذلك، في حين أعرب 26 في المائة عن موافقتهم فحسب.
وذكرت وكالة الأنباء الألمانية أن 4 في المائة فقط منهم قالوا انهم يرفضون على الإطلاق أن يكون هناك حد سنوي لهجرة الأجانب القادمين إلى بريطانيا، فيما أعرب 6 في المائة عن رفضهم فقط لذلك، في حين لم يعرب باقي المشاركين عن رأي محدد. وأظهر الاستطلاع أن 71 في المائة يعتقدون أنه يتعين أن تتمثل أولوية الحكومة في إعادة مزيد من البريطانيين إلى عملهم بدلا من استقبال مزيد من المهاجرين لشغل وظائف شاغرة. وذكرت متحدثة باسم وزارة الداخلية البريطانية ان «التقرير الذي أصدرته منظمة «اميغريشن ووتش» يمثل آراء عينة صغيرة من المواطنين».
فرنسا تدشن محاولة جديدة
عندما وصل الرئيس ساركوزي إلى قصر الإليزي دشنت فرنسا من ناحيتها صفحة جديدة في تاريخ الهجرة، تستند إلى مفهوم «الهجرة الانتقائية». وكان الرئيس ساركوزي طرح هذا المفهوم خلال حملته الانتخابية وجعل منها أحد المحاور الرئيسية لمغازلة أقصى اليمين، الذي لم يتردد في منحه الأصوات اللازمة للتفوق على غريمته سيغولين روايال.
وسعى بريس هورتفو، وزير الهجرة والهوية الوطنية بعد انتخابه، وهو من أقرب أصدقائه، إلى ترجمة هذه السياسة الانتقائية عبر قانون الهجرة الجديد الذي تولى إعداده. جديد القانون كان الترفيع من عدد المهن المتاحة أمام الأوروبيين الشرقيين من 61 مهنة إلى 162، وجميعها لا تستدعي توافُـر أي شهادات فعلية، وإنما مجرد قدر من التأهيل.
ودافع الوزير هورتفو في حينه عن مضمون قانونه في مواجهة منتقديه بالقول «إنه السبيل الوحيد المتاح للسيطرة على الهجرة من جهة، وتأمين ظروف لائقة للعمل والمعيشة للمهاجرين الجدد». كما رفض هورتفو الإقرار بأن القانون الجديد سيحول منابع الهجرة نحو فرنسا من البلدان الواقعة جنوب المتوسط إلى تلك الواقعة في شرق أوروبا.
لا نمو بدون هجرة
نشر معهد برلين للسكان والتنمية دراسة حول التطورات الديمغرافية في أوروبا دق فيها أجراس الخطر. وأشارت الدراسة إلى أن تراجع أعداد المواليد من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع نسبة الشيخوخة إلى مستويات قياسية وبالتالي تراجع عدد السكان. ويقول اشتفّن كرونيرت من المعهد البرليني إنه من دون الهجرة لا يمكن لأوروبا تحقيق نمو ديمغرافي مستقر.
وأشارت الدراسة إلى أن مناطق في شرق ألمانيا تعاني أيضا من تراجع نسبة الولادات وهجرة الفئة الشبابية منها إلى القسم الغربي من ألمانيا، حيث تشهد مدينتا كامنيتس وتورينغن وولاية سكسونيا-آنهالت تراجعا كبيرا في عدد السكان يعود بالدرجة الأولى إلى تراجع نسبة الولادات في السنوات الأخيرة، خاصة بعد سقوط جدار برلين.
ويعزو خبراء هذه التطورات إلى ارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير في عدد من ولايات شرق ألمانيا وبالتالي عزوف النساء عن الإنجاب أو الانتقال للعيش والعمل في غرب ألمانيا. وحسب الدراسة فإن عدد كل جيل سيقل عن سلفه بنسبة خمسة وعشرين بالمائة وذلك على ضوء المعطيات الديمغرافية الحالية، ذلك أن متوسط الإنجاب يبلغ واحدا فاصل خمسة طفل لكل امرأة داخل الاتحاد الأوروبي. وبحلول عام 2050 فإن متوسط الأعمار في الاتحاد الأوروبي سيزيد عشرة أعوام.
وتثير هذه المعطيات قلق الاقتصاديين والسياسيين لما لها من انعكاسات سلبية على النمو الاقتصادي الأوروبي نظرا لتراجع عدد الأيدي العاملة وارتفاع نسبة الشيخوخة وبالتالي زيادة الإنفاق على معاشات التقاعد، وهو قد يؤدي ذلك إلى عجز أوروبا عن تحقيق تطور اقتصادي ومنافسة قوى عالمية كالولايات المتحدة أو الصين.
من جهته دعا الخبير في مجال النمو الديمغرافي في أوروبا راينر كلينغهولتس ألمانيا ودول أوروبا الشرقية التي تعاني من تراجع النمو الديمغرافي إلى الاستفادة من سياسات البلدان الاسكندنافية في تشجيع السكان على الإنجاب. كما طالب خبراء في الاقتصاد الاتحاد الأوروبي بتشجيع هجرة الكفاءات إلى دول الاتحاد وذلك للحفاظ على النمو الاقتصادي الأوروبي.
ويشكل تدفق المهاجرين، إن كانوا شرعيين أم سريين من جنوب المتوسط نحو شماله، الوجه الأبرز لهجرة الجاليات العربية إلى الخارج، والتي يقدر حجمها بـ 36 مليون مهاجر من أصل مسلم وعربي موزعين في العالم، من بينهم مليونا مهاجر من حاملي الشهادات العليا.
200 مليون مهاجر
في سنة 2006 أعلن المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي «اينسيه» ان عدد المهاجرين في فرنسا، الدولة التي تستقبل أكبر عدد من المهاجرين في أوروبا، بلغ 4.9 مليون نهاية عام 2004، أي ما يعادل 8.1 في المائة من السكان. وأوضحت المؤسسة الحكومية في دراسة أن معظم هؤلاء المهاجرين أتوا من أفريقيا وآسيا.
وللتذكير فعدد المهاجرين العرب بإسبانيا يفوق حاليا 800.000 نسمة، يمثل المغاربة منهم أزيد من 720.000 حسب إحصاءات نشرتها جهات رسمية إسبانية بداية شهر فبراير الماضي. أما عدد المهاجرين غير الشرعيين العرب فيفوق 100.000 حسب بعض التقديرات غير الرسمية.
وحسب إحصائيات سنة 2008 الواردة في التقرير السنوي الذي أصدرته المنظمة الدولية للهجرة فإن هناك أكثر من 200 مليون مهاجر في العالم. ووصل عدد المهاجرين إلى أوروبا حوالي 70.6 مليون شخص وهى القارة التي تستقبل العدد الأكبر من المهاجرين الآتين من كافة أنحاء العالم.
استنزاف
تمتلك الهجرة بين طياتها أضرارا جمة لما يوصف بالدول السائرة في طريق النمو، وحجم هذا الضرر والخسائر مرشح للتصاعد نتيجة سياسة الهجرة الإنتقائية أي البحث عن الكفاءات.
في السنوات الخمسين الأخيرة هاجر من الوطن العربي وفقا لبعض التقديرات ما بين 35 إلى 40 في المائة من حجم الكفاءات العربية (استقطبت ثلاث دول غربية هي الولايات المتحدة الامريكية وكندا وبريطانيا أكثر من 75 في المائة من المهاجرين العرب وتقوم بمنحهم جنسياتها)، فـ 50 في المائة من الأطباء و 23 في المائة من المهندسين و 15 في المائة من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة (في السنوات الخمسين الأخيرة) هاجروا إلى أوروبا وأمريكا وكندا و54 في المائة من الطلاب العرب الذين درسوا في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، ويشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا حوالي 34 في المائة من مجموع الأطباء العاملين فيها.
وقد وصلت خسائر الدول العربية من جراء هجرة العقول العربية إلى حوالي مائتي مليار دولار وفق تقرير منظمة العمل العربية لعام 2006، لتصبح هجرة الكفاءات من أهم العوامل المؤثرة على الاقتصاد العربي، في وقت تحتاج فيه التنمية العربية لمثل هذه العقول في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمي.
واستنادا إلى تقييم الخدمة المقدم إلى الكونغرس قبل فترة تكسب الولايات المتحدة 20000 دولار كل سنة لكل مهاجر ماهر من العالم النامي.
ترى بعض الاتجاهات الفكرية أن الغرب ينظر لقضية هجرة العقول من زاوية أنها «إعادة لإنتاج التخلف في العالم الثالث أو النامي»، فهو يستقطب النخب العلمية والفكرية والسياسية التي بإمكانها تطوير هذه المجتمعات على جميع المستويات، لتنتهي النتائج بالإجمال لصالح الاقتصاد الغربي؛ حيث تربي دول العالم الثالث النخب التي لديهم في الجامعات الغربية، ويدفعون مقابل ذلك المليارات، ثم يقوم الغرب بتوظيف هذه الكفاءات لصالح الاقتصاد والمجهود الحربي والسياسي والثقافي الغربي، بل ينظر الغرب إلى القلة الذين يعودون الى أوطانهم على أنهم سفراء جيدون لنمط الحياة الغربي في بلدانهم الأصلية. وفي حالات أخرى يتم تصفية الكفاءات التي تحاول العودة إلى أوطانها الأصلية إذا كان الأمر يتعلق بكفاءات في مجالات حساسة كالفيزياء النووية وتقنيات الدفع الذاتي للصواريخ وما شابه ذلك.
وفيما تعتبر منظمة اليونسكو أن هجرة العقول أو الكفاءات «شكل من أشكال التعاون والتبادل العلمي الشاذ أو غير السليم بين الدول»، باعتباره يعني تدفق هجرة العلماء في اتجاه واحد نحو الدول المتقدمة، فإن منظمة التعاون والتنمية الدولية تميز بين مفهوم «تبادل العقول» ومفهوم «إهدار العقول»، على اعتبار أن «تبادل العقول» أمر طبيعي ناجم عن تفاعل الحضارات وحوار الثقافات.
إلا أن البعض يرى أن حركة هجرة العمالة المتخصصة يجب أن ينظر لها أنها في مصلحة الدول، طالما لم تشكل عبئا على مواردها، خاصة من حيث مساهماتها في تعميق مبادئ التفاهم العالمي والتعاون بين الدول، وبين الفريقين فريق ثالث يدعو لدراسة الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى تتحقق المصالح العليا للدول الطاردة.
إن عملية الهجرة قد تؤدي إلى تدمير جزئي للثروة البشرية في الدول المصدر، وخطورة الأمر لا تقتصر على ذلك فقط، بل تزداد في ظل تأثيرها الكبير على الأجيال الأصغر سنا من الكفاءات، خاصة من ينتمي منهم إلى الفئات الاجتماعية الأفضل من حيث التصنيف الاقتصادي حيث يتيح لهم أن يكونوا أكثر استعدادا من خلال وسائل الاتصال والتعليم للهجرة إلى الخارج الأمر الذي من شأنه أن يلحق مزيدا من الضرر بالدول المصدرة لهذه الكفاءات بدءا من الفاقد في الاستثمار وفي التعليم وانتهاء بإضعاف القدرة الذاتية للمجتمع على القيادة والإدارة ومرورا باستنزاف قوى التنمية في المجتمع.: