العلماء هم ورثة الأنبياء وهم قادة الامة من الضلال الى الهداية ومن الظلام الى النور، وبصلاحهم تصلح الامة وبفسادهم تفسد، واكبر مصيبة تحل على الامة اذا برز فيها علماء السوء الذين يلبسون على الناس دينهم، ويجعلون الحق باطلا والباطل حقا رغبة منهم في فتات الدنيا وحطامها.
وأسوأ اولئك العلماء من باتوا علماء لـ (السلاطين) يفتون لهم بما شاؤوا، يقتاتون على موائدهم ويترقبون عطاياهم، همهم الاكبر رضى (الحاكم) عنهم وان كان بسخط (الرب) العظيم القهار، ومن قرأ سير علماء الامة الربانيين من عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان الى يومنا هذا علم ان العلماء المخلصين لم يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، بل صدعوا بالحق امام كل سطان جائر، وان كانوا خلفاء يحكمون بشرع الله!! لا بقوانين وضعية!! بل كان بعض هؤلاء الخلفاء يسيرون بالجيوش في سبيل الله ويحكمون بكتاب الله وسنة رسوله ومع هذا لم يتزلف اليهم علماء الشريعة والدين، ولم يقبل الكثيرون عطاياهم، ولم يقبلوا بمجالستهم طمعا في الدنيا وزهرتها، وذلك لانهم تعلموا العلم لله فزادهم الله خشية، واورثهم غنى عما في أيدي الناس.
وهذه امثلة قليلة جدا من مواقف علماء الامة الصادقين المخلصين، الذين وان لم يكفّروا الحكام ولم يدعوا الناس للخروج على حكامهم وولاتهم، لكنهم لم يجاملوهم على حساب الشريعة، ولم يطيعوهم في كل امر، فمنهم من قتل ومنهم من جلد وعذب ومنهم من سجن ومنهم من نفي وطورد، لانهم علماء دين لا علماء دنيا واتباع السلاطين!!
مر (المهلب) وهو والي خراسان وكان مجاهدا مقاتلا في سبيل الله، على (مالك بن دينار) وهو يمشي، فرآه (مالك) يمشي متبخترا، فقال (مالك): انها مشية يكرهها الله الا بين الصفين!! فقال (المهلب): اما تعرفني؟! قال (مالك): بلى، اولك نطفة مذرة! واخرك جيفة قذرة! وانت فيما بين ذلك تحمل العذرة.. فانكسر (المهلب) وقال: الآن عرفتني حق المعرفة!!
وهذا العالم الجليل، والتابعي الكبير (عطاء بن ابي رباح) دخل على الخليفة (عبدالله بن مروان) في الحج، فأخذ يذكّره بالله وينصحه ويوصيه بفقراء المسلمين واهالي المجاهدين في سبيل الله، فلما انتهى قال الخليفة له: انما سألتنا حوائج غيرك وقد قضيناها، فما حاجتك؟! فقال (عطاء): مالي الى مخلوق حاجة!! ثم خرج!! فعجب الخليفة منه وقال: هذا وابيك الشرف والسؤدد!!
وهذا شيخ الإسلام (ابراهيم بن اسحاق الحربي) يأتيه رجل من اصحاب المعتضد بعشرة آلاف من امير المؤمنين يطلب منه ان يفرقها للفقراء والمحتاجين، فرده (ابراهيم) وقال للرجل: قل لأمير المؤمنين: (هذا مال لم نشغل انفسنا بجمعه فلا نشغل بتفرقته!! ثم قل له: ان تركتنا والا تحولنا من جوارك)!!.
هكذا كانوا لا يقبلون العطايا والهدايا حتى لا تؤثر في نفوسهم وقلوبهم، بل كانوا لا يقبلونها حتى وان كانت لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين!! وان كان الامر ليس لجرم وقد فعلها غيرهم، لكنه الورع والبعد عن الشبهات الذي هو سمة علماء ذلك الزمان.
ولهذا كتب (سفيان الثوري) رسالة إلى (عباد بن عباد) وجاء فيها: (.. واياك والأمراء أن تدنو منهم وتخالطهم في شيء من الأشياء، واياك أن تخدع فيقال لك: تشفع وتدرأ عن مظلوم، أو ترد مظلمة، فإن ذلك خديعة ابليس!! وإنما اتخذها فجّار القراء سلّما، وكان يقال: اتقوا العابد الجاهل والعالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون).
إن الأمة الاسلامية ابتليت ومازالت بفئتين، فئة لا هم لها إلا (التكفير) و(الخروج) ولم يسلم منهم صاحب المعصية إلا وكفروه، وسلوا سيوفهم على أهل الاسلام وتركوا أهل الكفر والاوثان، وفئة (مرجئة) جعلوا الكفر بمنزلة الإيمان، لا هم لهم إلا الدفاع عن السلطان وتبرير خطاياه وإن كانت تؤدي بالأمة إلى هلاكها وضياعها، فبئس الفريقان!
جاء سليمان بن عبدالملك مع ابنيه إلى (عطاء) ليسألوه عن بعض مسائل الحج فأجابهم ولم يلتفت إليهم!! فقال سليمان لابنيه (اجتهدا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود)!!
وهذا (العباس) أمير الكوفة أرسل ألف درهم (للأعمش) فأرجعها إليه وكتب له الفاتحة، فكتب (الأمير) له: أبلغك أنا لا نحسن القرآن؟! فأجابه الأعمش: أبلغك منا أنا نبيع العلم؟!
ولم يكن علماء الأمة يستهينون بالعلم الذي عندهم، فهذا الإمام (ربيعة الرأي) لما دخل على الوليد بن يزيد -وهو خليفة- قال: يا ربيعة، حدثنا... قال (ربيعة): ما أحدث شيئا!!... فلما خرج ربيعة قال (ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليّ كما يقترح على المغنية!! حدثنا يا ربيعة!!)
وبعث (محمد بن ابراهيم) والي مكة إلى سفيان الثوري بمائتي دينار فأبى سفيان أن يقبلها! فقال (يا أبا عبدالله، كأنك لا تراها حلالا؟ قال: بلى، ولكن أكره أن أذل!!).
ان مواقف العلماء الصادقين من زمن الصحابة إلى يومنا هذا مع الخلفاء والأمراء والسلاطين لا يمكن عدها ولا حصرها، ومن قرأ سيرة سعيد بن جبير وابن المسيب وعطاء وعمر بن عبدالعزيز والعز بن عبدالسلام وسفيان الثوري والإمام احمد وشيخ الاسلام ابن تيمية والبخاري وغيرهم الكثير والكثير لعلم حقا ان العلماء هم ورثة الأنبياء وانهم كانوا صادقين في عهدهم مع الله ولهذا أصابهم ما اصابهم من البلاء ولكن حفظوا للأمة دينها وعقيدتها.
ولا تزال الأمة تحتفظ بعلمائها الصادقين الذين يدخلون في قول الله تعالى: {وأولي الأمر منكم} من الذين يصدعون بالحق ولا يخافون لومة لائم، أما اولئك الذين رضوا بأن يكونوا أدوات في يد السلطات، يستخدمونهم لإسكات المعارضين، ويستنطقونهم لإفتاء الملايين، بما يخالف الشريعة والدين، المهم عندهم هو بقاؤهم في المناصب واغداق الملايين!! فهؤلاء وغيرهم نذكرهم بالله جل وعلا فهو الغني وهو المتفضل وهو أحق أن يخشى جل وعلا فليتقوا الله ربهم.
وما أجمل الأبيات التي كتبها (عبدالله بن المبارك) لما سمع ان صاحبه (ابن علية) ولي القضاء غضب عليه وكتب له شعرا طويلا قال في آخره:
أين رواياتك في سردها
لترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فهذا باطل