منذ نهاية الحرب العالمية الثانية –كما نبه إلى ذلك مالك بن نبي- والإنسانية تتجه إلى وحدة المصير، وتشترك في القضايا الكبرى، وترتبط في علاقاتها بشكل يوحد من همها وتطلعاتها، كما يوحد شعورها بالمخاطر المحدقة بالإنسانية وأهمية العمل المشترك والعيش أو التعايش المشترك بدل منطق الصراع الذي قد يؤدي إلى النهاية المأساوية للجميع.
وقد تعمق هذا الوعي بشكل أكبر –على المستوى الفكري- عندما بدأت الكتابات تتوالى في الغرب خاصة عن طبيعة العلاقات الدولية التي ستحكم العالم، وخاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وخلو الساحة الدولية لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ووقع العالم تحت هيمن "وحيد القرن" وزوال الثنائية.
ثم أنه بعد صدور كتابي كل من فوكوياما "نهاية التاريخ" وهاتنجتون "صدام الحضارات" حيث بشر فوكوياما بسيادة قيم الديمقراطية الليبرالية وهيمنتها على العالم وتحولها إلى المصير الوحيد للإنسانية التي يجب أن تقبله، بينما تنبأ هاتنجتون بأن الصراع في المستقبل لن يكون بين الدول الوطنية، ولا بين المحاور السياسية الأيديولوجية، بل بين المحاور الحضارية. أي بين الحضارات التي تشكل -في نظره- "الإطار الثقافي الأوسع للمجتمعات"، وبهذا فإن خطوط التماس الحضاري ستشهد –وقد شهدت فعلا- صداما دمويا مثلما حدث في البوسنة وفي الصومال وفي كوسوفا وفي مواقع أخرى ويحدث الآن في فلسطين والعراق.
ولذلك سارعت الأمم المتحدة وبعض الدول التي لا ترغب في هذا الصدام إلى تبني مقولة حوار الحضارات، وأعلنت الأمم المتحدة سنة 2002 سنة لحوار الحضارات، ثم شاع أدب الحوار بين الحضارات في مختلف الدوائر الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية، ومما زاد الأمر أهمية تعاظم ظاهرة العولمة واقترانها بمرحلة تاريخية من حياة الإنسانية اتسمت بمحاولة إزالة كل الحواجز في وجه القوة الأمريكية مستعملة في ذلك كل الأدوات السلمية والحربية من أجل فرض الهيمنة على العالم وتوجيهه وفق تطلعات إدارة البيت الأبيض وبارونات المال والأعمال والنخبة المتواجدة في مراكز القرار والأبحاث والدراسات الاستراتيجية في الغرب عموما وأمريكا بوجه خاص.
منطقان متعاكسان يحكمان حوار الحضارات:
وبناء على ما سبق فقد كثر الحديث عن حوار الحضارات والثقافات والأديان، مما يدل على الوعي بالصعوبات التي يواجهها الجميع؛ سواء في ذلك العالم المتطور أو العالم المتخلف.
ومن جهة أخرى فإن كثرة الحديث عن موضوع الحوار بين الحضارات والثقافات يدل على الاختلالات التي تعاني منها منظومة العلاقات السائدة بين الأمم وأنها لم تعد عادلة ونافعة، بل ولم تعد قابلة للتنفيذ والممارسة بشكل يحقق مصالح الإنسانية في الأمن والسلام والتقدم. وخاصة الاختلالات التي تعاني منها منظومة القيم والثقافة الغربية والأمريكية بوجه أخص وذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وفي هذا السياق أرى أن سبب تلك الاختلالات راجع في جوهره إلى منطقين متعاكسين في الاتجاه وفي المنطلق، ونظرا لهذا التعاكس بين المنطقين فإن الإنسانية مهددة في مصيرها إما باستمرارية حالة الاحتقان وإما بهيمنة الغطرسة الأمريكية التي ترى نفسها هي الحضارة القدوة وغيرها تخلف وإرهاب.
أما المنطقين المتعاكسين فهما؛ منطق التاريخ من جهة، والقاضي باتجاه البشرية إلى وحدة المصير بفعل اطراد تقدم البشرية وترابط مصالحها بعضها ببعض، وبفعل التقدم التكنولوجي الهائل الذي أدى إلى تقارب المكان والزمان.
ومن جهة أخرى هناك منطق الهيمنة الغربية على العالم، ومحاولة فرض نمط عنصري محدود الأفق، قاصر في رؤيته ومداه، متحيز في قيمه، مادي في طموحه وتوجهه، وصدامي في تعامله. محاولة هذا النموذج بفعل ما يملكه من غلبة حضارية مؤقتة أن يفرض ثقافته ومعياره على العالم، مما يولد رفضا من بقية الكيانات الحضارية لمثل هذه الغطرسة وفرض القيم والمعايير.
والمنطقان اللذان سبق ذكرهما يطرحان إشكالا غاية في الأهمية، وهو بدوره يقوم على قضيتين؛
أولا: أن وحدة المصير الإنساني تفرض على كل الحضارات الأمم والشعوب والدول التزاما جماعيا بمتطلبات عالمية أو كونية، لأن المصير صار مشتركاً، والمصالح صارت متداخلة، والعالم صار قرية صغير يؤثر أدنى حدث فيها في كل أركان المعمورة، ويمس كل الناس.
ثانياً: أن هناك تميز واختلاف في القيم والمعايير والثقافات بين مختلف الشعوب، وبالتالي ينشأ حق أساسي من حقوق الأمم والشعوب والكيانات الحضارية في التميز والاختلاف عن الثقافة الغربية المهيمنة وبالتالي الاحتراز نظريا وعمليا من الذوبان في ثقافة الغرب المتغطرسة.
أبعاد الإشكالية:
ولنا أن ننظر إلى مكمن الإشكال الذي ذكرناه، ونتساءل عن كيفية حله من أجل صالح البشرية؛ فهل نعتبر الحضارة الغربية المعاصرة هي أرقى ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية، وبالتالي فهي تمثل الحضارة القدوة وعلينا القبول بها نموذجا مهيمنا غالبا ينبغي اتباعه والاقتداء به، وترك كل الخصوصيات الثقافية والحضارية الخاصة بنا؟
أم هل أن الحضارة الآن هي نتاج تراكمي تاريخي لشعوب وحضارات متعددة، وبالتالي فإنها نتاج عوامل متعددة، وليست ذات خصوصيات غربية أو أمريكية أو إنتاج أمة معينة، وبهذا علينا أن نعتبرها هي الحضارة، ولا ينبغي الخروج عنها؟
أم أن مفهوم الحضارة العالمية مفهوم فضفاض مهلهل مهتز، استعمله الغالب ليسيطر على المغلوب، ودعا إليه القوي ليسلب من الضعيف آخر أدوات المقاومة لنموذج مشوه وقاصر ومحدود الأفق، وبذلك ينبغي الاحتفاظ بالخصوصية الحضارية والثقافية، وترسيخ مبدأ التميز والاختلاف؟
إن تأمل الخيارات الثلاثة المطروحة أمامنا تمثل –في الواقع- أهم المقاربات الموجودة في الأوساط السياسية والثقافية والعلمية، وهي المقاربات المتداولة بين الباحثين والمهتمين بالشأن الحضاري.
ويمكن القول أن هذه المقاربات تحمل كل منها مبرراتها كما تحمل جوانبها السلبية، وهذا ما يدفع إلى الدعوة إلى العمل على صياغة مقاربة أكثر شمولية وإحاطة بالموضوع، وذلك –كما ذكر مالك بني- من خلال استراتيجية ومنهجية تتوجه إلى أبعاد ثلاثة؛
أولاً: فهم النسق والسياق التاريخي الذي نشأة فيه الحضارة المعاصرة، وهو لا شك نسق الحداثة الغربية بما وفر للحضارة الغربية المعاصرة من إطار فلسفي ومرجعية فكرية ومنظومة قيمية تطورت في كنفها الحضارة وصاغت مقولاتها في ما يخص علاقتها بالحضارات والثقافات غير الغربية.
ثانياً: محاولة فهم العلاقة بين الديني والدنيوي، بين المطلق والزماني، بين منظومة القيم الدينية والقيم العلمانية التي صاغتها الحضارة الغربية وأثر ذلك على تشكل المؤسسات والجماعات السياسية والاجتماعية والثقافية والمهنية وغيرها في الغرب. أي فهم مفهوم وموقع الدين في صياغة الحضارة الغربية المعاصرة.
وثالثاً: فهم التطور التكنولوجي الهائل الذي ميز الحضارة الغربية المعاصرة والأبعاد التي أضفاها على منظومة القيم والمعايير، وما أدى إليه من تغير النظرة إلى الإنسان ومكانته وماهيته ووجوده. أو ما عبر عنه ابن نبي بتقدم العلم وتخلف الضمير.
وفي الختام نقول؛ أنه بهذه الاستراتيجية فقط يمكن أن نحيط بالظاهرة وأن نستوعبها فهما، وبعد ذلك يمكن أن نحل الإشكالات المطروحة، ونستطيع أن نتحدث عن الحضارة العالمية أو الكونية.