الفارابي
حياته:-
الفارابي هو ابن نصر محمد بن محمد بن اوزلغ بن طرخان.
ولد حولي سنة 870 م و 257 هــ. في مدينة فاراب التركية، وقيل فارياب الفارسية، وهكذا لم ينفق المؤرخون في نسبته إلى الفرس أو الأتراك أو العرب وإن كانوا يميلون إلى أنه فارسي النسب.
ويذكرون أن أباه كان فارسيا، تزوج من امرأة تركية أنجبت له الفارابي الملقب بأبي نصر، وقد قيل أن الفارابي الذي نشأ في أسرة شريفة ميسورة انصرف عن بهرج الحياة إلى الفلسفة، وعاش زاهدا يكتفي بأربعة دراهم يجريها عليه سيف الدولة الذي كان يجيز بآلاف الدراهم. ولو أن الفارابي أراد المال أو الجاه لنال منه الكثير لكنه كان زاهدا في الدنيا منصرفاً إلى العلم والمعرفة.
( عطوي، 1980)
آثاره:-
يعتبر الفارابي من أغزر فلاسفة الإسلام أنتاجاً وأكثرهم تنوعاً، فكتب في الفلسفة والرياضيات والتنجيم والكيمياء والعرافة والموسيقى وغيرها من العلوم والفنون، إضافة إلى شروحه المتعددة على مصنفات المعلم الأول أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان، فشرح جميع الكتب التي يتألف منها المنطق بأوسع معانيه.
وقد اشتهر أبو نصر بصفة خاصة بشروحه على مؤلفات أرسطو التي أكسبته لقب \"المعلم الثاني\" مما جعل المستشرق materweg يقول: إن تسمية الفارابي بالمعلم الثاني – بعد أرسطو المعلم الأول – قد جعل الفيلسوفين على قدم واحدة من المساواة.
ومن أشهر مؤلفاته:
1. كتاب الجمع بين رأي الحكيمين (أفلاطون وأرسطو).
2. كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة.
3. كتاب الموسيقى الكبير.
4. رسالة في إحصاء العلوم.
5. رسالة في قوانين صناعة الشعر والخطابة.
مرجع سابق (عطوي، 1980)
أما الإحصاءات التي أوردتها كتب الأصول عن مؤلفات الفارابي فقد اختلفت فيما بينها اختلافات واسعة، سواء من حيث عدد المؤلفات أو من حيث العناوين والموضوعات، فعلى سبيل المثال ابن صاعد الأندلسي في قائمة لمؤلفات الفارابي سوى أربعة كتب، بينما وصل ابن أبي أصيبعة في تعداده إلى 113 كتاباً ورسالة.
(شمس الدين، 1990)
المنهج العلمي عند الفارابي: -
الفارابي صاحب منهج، بل هو من أهم فلاسفة الإسلام المنهجيين إذا لم يكن أهمهم على الإطلاق, ونستطيع أن نتبين هذا من نقطتين اثنتين: النقطة الأولى تصنيفه للعلوم من خلال كتابه \"إحصاء العلوم\" وعلاقة هذا التصنيف بفلسفته العامة.
والنقطة الثانية – وهي الأهم في إيضاح منهجه – التسلسل المنطقي والربط المحكم بين مختلف أجزاء فلسفته كما يتمثل في كتبه المختلفة المذاهب والمشارب، وخاصة في كتابه آراء المدينة الفاضلة.
أهمية تصنيف العلوم وصلته بالمنهج العلمي: -
لا شك أن أي تصور لتصنيف العلوم إنما يكشف عن فلسفة معينة لصاحب التصنيف ومن ثم يتم من خلاله التعرف على صلة العلوم وارتباطها فيما بينها الأمر الذي يسمح لفريق من العلماء المتخصصين في علوم ضيقة متقاربة المجال بأن يتناولوا بالدراسة وقائع أو ظواهر واحدة، وكل منهم يعالجها من زاوية تخصصه مع وجود نظرة تكاملية من ناحية أن مجال البحث إنما يدور حول مشكلة واحدة أو ظاهرة واحدة.
وقد اعتمد الفارابي في تصنيفه على ناحيتين، الأولى: اعتماده في تصنيف العلوم على موقف الإنسان المعرفي من موضوعات العلوم المختلفة, حيث أن هناك صنفاً من الموضوعات تطلب المعرفة فيها لذاتها، والإنسان يعرف هذه الموضوعات ولكن لا دخل له في فعلها. هذا الصنف من الموجودات تدرسه العلوم النظرية.
أما الصنف الثاني من الموضوعات، فهي تلك التي تطلب من أجل المنفعة المتوخاة من تحصيلها، والإنسان يعرف هذه الموضوعات ويستطيع فعلها وهذا الصنف الثاني تبحث فيه العلوم العملية.
وقد رأى الفارابي أن العلوم العملية تأتي في المرتبة الثانية بعد العلوم النظرية، لأن هذه الأولى تتوقف على الثانية وتركز عليها، فهي تابعة لها وخادمة.
أما الناحية الثانية التي تبين مذهب الفارابي في تصنيفه للعلوم، فهي موقف الفيلسوف من حيث الغاية القصوى من تحصيل العلوم، وهو يتجه في هذا اتجاهاً أخلاقياً عاماً، حيث يرى أن غاية الإنسان النهائية هي تحقيق السعادة فمتى حصلت له لا يسعى إلى غاية أخرى.
(شمس الدين، 1990)
الترابط بين أجزاء فلسفة الفارابي: -
إن أول ما يلاحظه المطلع على فلسفة الفارابي هو هذا التسلسل المنطقي والترابط المحكم والصارم بين مختلف أجزاء فلسفته، نعني بذلك حرص الفارابي على عدم إهمال أي نقطة من نقاط الموضوع الذي يبحث فيه، مع ذلك جهده في جعل أي جزء من أجزاء فلسفته متصلاً اتصالاً وثيقاً بالأجزاء الأخرى، ويظهر هذا واضحاً في الترابط بين نواحي فلسفته النظرية والعملية، أي الماورائية والاجتماعية والسياسية بشكل خاص.
ما ذكرناه يشكل أحد أهم عناصر الفلسفة المنهجية إذا لم يكن هو المنهج بعينه. فلننظر فيما يلي في تعريف المنهج ولنحاول تطبيقه على فلسفة الفارابي.
يعرف \"لالاند\" المنهج والفلسفة المنهجية بقوله: إنه مجموعة عناصر يتوقف بعضها على بعضها الآخر بحيث تشكل هذه العناصر كلاً منتظماً. والفلسفة المنهجية هي مجموعة أفكار مترابطة منطقياً بحيث تفسر الأفكار الأخيرة بالأفكار الأولى.
ينطبق هذا التحديد بكل تفاصيله على الفلسفة الفارابية من خلال كتابه \"آراء المدينة الفاضلة\" الذي يعتبره أكثر الباحثين الكتاب الذي يعبر أفضل تعبير عن فلسفة الفارابي ككل.
ينقسم كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة إلى قسمين كبيرين: قسم فلسفي وقسم سياسي اجتماعي. يبحث القسم الأول - وهو الأكبر – في الموجود الأول وفي نفي الشريك عنه ونفي الضد، وفي صفات الإله وعلمه وأنه حق وحياة وحكمة وما شابه ذلك.
أما القسم الثاني فيرتكز على الأول, ويبحث فيه الفارابي في احتياج الإنسان إلى التعاون، ثم يذكر المدينة الفاضلة وأضدادها.
فالقسم الأعظم من كتاب المدينة الفاضلة مخصص إذن للبحث في الإلهيات لا في السياسات، لأن رأي الفارابي في المدينة الفاضلة ناتج من نظرياته الفلسفية في العقول السماوية, وصدور الموجودات عن الخالق، وعلاقة الأكوان بعضها ببعض.
وهذا ما يوضح ما قلناه من أن المنهج عبارة عن ارتباط أجزاء فلسفة ما بعضها ببعض من جهة ثانية تدخل فكرة الفعل الواعي المراد والهادف الذي يتعارض مع الفعل العفوي.
(مرجع سابق، شمس الدين،1990)
التوفيق بين أفلاطون وأرسطو: -
لقد ساء الفارابي أن يرى دارسي فلسفة كل من أفلاطون وتلميذه أرسطو ينتقدونهما، لما بينهما من وجوه الخلاف فقام بمحاولة التوفيق بين هذين الفيلسوفين العظيمين لحسبانه أن الخلاف ظاهري وحسب، أما جوهر فلسفتيهما فواحدة وأصولها تتشابه. وكذلك له هدف بعيد من محاولة التوفيق هذه ألا وهو رغبته في مواجهة الدين بفلسفة موحدة لتسهل عليه محاولة التوفيق بين الوحي والعقل بعد ذلك.
والفارابي يرى في محاولة توفيقه بين الفيلسوفين، أن قول النقاد بقيام الخلاف بينهما لا يعدو حالات ثلاث فقط وهي:-
أولاً: إما أن يكون الحد المبين عن ماهية الفلسفة غير صحيح.
وقد رد على هذا بقوله إن الفلسفة في نظر أفلاطون وأرسطو هي \"العلم بالموجودات بما هي موجود\" وهذا الحد صحيح لأنه يبين ذات المحدود ويدل على ماهيته ويطابق علم الفلسفة.
ثانياً: إما أن يكون رأي الجميع أو الأكثرين واعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين سخيفاً ومدخولاً وهذا مردود بالطبع على قائليه فلا يمكن أن يتفق الناس على تقديم رجل أو رجلين إلا لأن عقولهم وأفهامهم أجمعت على حقيقة لا مراء فيها ولعظم مكانتهما وقولهما.
ثالثاً: وإما أن يكون في معرفة الظانين فيهما بأن بينهما خلافاً في هذه الأصول، تقصير.
وقام الفارابي باستعراض عدة مسائل فلسفية ومواقف حياتية لدى الفيلسوفين لينتهي من ذلك إلى إثبات اتفاق ما قالا به من الآراء.
(الهاشم،1968 )
لقد حاول الفارابي أن يوفق ويجمع بين الأمور التالية لدى الفيلسوفين اليونانيين:
1. طريقة معيشتهما، بالنظر إلى زهد أفلاطون ولذة أرسطو.
2. أسلوباهما في التأليف والتصنيف.
3. رأياهما في الأخلاق.
4. رأياهما في المثل, واختلافهما الصريح حول تلك النظرية.
5. رأياهما في قدم العالم.
6. نظرية المعرفة.
(عطوي، 1980)
منابع فلسفة الفارابي: -
كان للفارابي منبعين أساسيين يستمد منهما فلسفته الأول الإسلام، والثاني الفلسفة اليونانية المتمثلة بأفلاطون وأرسطو إضافة إلى مدرسة الإسكندرية المتمثلة بأفلوطين وإتباع المدرسة الأفلاطونية الجديدة.
أما اعتبارنا الإسلام منبعاً أساسياً لفلسفة الفارابي فهو شيء طبيعي لا يحتاج إلى تحليل أو تعليل، ذلك لآن أبا نصر وإن كان يعتبر مؤسس الفلسفة – بمعناها اليوناني الواسع – في الثقافة الإسلامية، فإن لم يخرج عن كونه مسلماً، نشأ في بيئة إسلامية، واطلع على العلوم والمبادئ الإسلامية – كـأي مثقف مسلم – قبل أن يبدأ بالتفلسف.
أما تأثره في الفلسفة اليونانية فيتمثل من ثلاثة اتجاهات فهو من جهة تلميذ لأفلاطون في الأخلاق والسياسات والإلهيات، وهو من جهة ثانية ذو نزعة أرسطية في المنطق والطبيعيات وفي مبادئ ما بعد الطبيعة وتابع من جهة ثالثة مدرسة الأفلاطونية الجديدة في نظرية الخلق والصدور.
وعلى الرغم من تأثر الفارابي المزدوج بالإسلام والفلسفة اليونانية، فإن المطلع على فلسفته لا يستطيع إلا أن يرى تفرده في مذهب خاص به فهو يخرج عن الشرع الإسلامي أحياناً ويخرج عن الفلسفة اليونانية أحياناً أخرى.
كل هذا يجعلنا نقول أن هناك مصدراً ثالثاً استمد منه الفارابي فلسفته، هذا المصدر هو عقله الذي أتاح له إبداع فلسفة متميزة قلما نجد فيلسوفاً آخر جاء بعده لم يقتبس من أفكارها ويستمد من معينها.
(شمس الدين، 1990)
منطلقات الفارابي الفكرية:-
اتسم تطور العلم في ظل الخلافة العربية الإسلامية بملمحين أساسيين، برزا بوضوح في أعمال الفارابي، وهما الموسوعية والعقلانية. وقد وجدت عقلانية العلماء العرب صدى لها حتى في الإنجازات العلمية المعاصرة، بعد أن كانت نفضت يديها من المعتقدات الغيبية، موجه فكر االشرق العربي الإسلامي نحو البحث عن الأسس الأولية للعالم المادي.
وارتبطت موسوعية العلم العربي من جانب بـ \" استيعاب المعرفة الموروثة عن البلدان الأخرى \" والذي كفل للعلم العربي تفوقاً معيناً على علوم العصور القديمة.
ومن جانب آخر لم يقيد المبدعون في دولة الخلافة العربية مجال نشاطهم في ميدان واحد من ميادين المعرفة، فقد كانوا جميعاً مساهمين في مختلف فروع العلوم الطبيعي والفلسفة وإذ فضل الفارابي الفلسفة فقد انغمر في دراسة الكثير من المسائل الخاصة والتطبيقية.
يتميز أسلوب أبي النصر الفارابي في التفكير:-
1. بالإيغال في العقلانية.
2. أن الانتظام والاتساق المنهجي لهو الملمح الساطع في أسلوب إبداع الفارابي.
3. ثم أن توجهاته المنهجية تجد تطبيقها العلمي عند بحثه لدائرة عريضة من الموضوعات مثل الشعر والفن والفيزياء والرياضيات وعلم الموسيقى والفلك والطب والأخلاق.
4. ومن وجهة نظر المنهجية يتعامل الفارابي مع الفرق في مستويات استيعاب العالم بين الفلسفة والدين.
5. نلاحظ أن الفارابي كان أحياناً مثالياً في منطلقاته الفلسفية لكن هناك فرقاً بين مثالية وأخرى فقد جرت عملية التصدي للغيبيات على يدي بعض أشكال المثالية أيضاً بيد أن للفارابي ميلاً نحو المادية أو تردد بين المثالية والمادية عند حل عدد كبير من القضايا وأيضاً هناك أحياناً له بعض الخروج عن المبادئ والفلسفة الإسلامية.
لكن هذا كله ليتفرد بفلسفته عمن سبقوه.
6. مهدت فكرة العقل، كأساس لنظيرة المعرفة لدى الفارابي بطرح القضايا المعرفية في الفلسفة المشائية الشرقية، فإذا كان الكندي قد اعترف بأولوية الإلهام الرباني، فإن أولوية المعرفة العقلية، عند الفارابي، أمر لا شك فيه، زد على ذلك أنه يضع المعرفة الحسية مقدمة لها، أدنى منها درجة ولكنها ضرورية لها. من هنا يتضح الدور التقدمي الذي لعبه الفارابي في تطور نظرية المعرفة في الشرق العربي.
( فاسمجانوف، 1986)
المراجع
1. الهاشم، جوزف: الفارابي، ط2، بيروت المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، 1968.
2. شمس الدين، أحمد: الفارابي حياته، آثاره، فلسفته، ط1، بيروت – لبنان – دار الكتب العلمية، 1411ه – 1990م.
3. عطوي، فوزي: الفارابي فيلسوف المدينة الفاضلة، دار الكاتب العربي، 1980.
4. فاسمجانوف، الفارابي، ترجمة برهان الخطيب، الترجمة إلى اللغة العربية – دار التقدم - موسكو، 1986