ما أحلاها توبة
**********************
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري أن نبي الله قال: { كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أي حكماً - فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الارض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة } [متفق عليه].
وفي رواية في الصحيح: { فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر، فجعل من أهلها }. وفي رواية في الصحيح: { فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له }. وفي رواية: [ فنأى بصدره نحوها }.
وعن أبي نجيد عمران ابن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة أتت رسول الله وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا رسول الله أصبت حداً فأقمه عليّ، فدعا نبي الله وليها فقال: { أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني } ففعل فأمر بها نبي الله ، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟ قال: { لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟ } [رواه مسلم].
فيا أخي الشاب:
هل تذكرت هاذم اللذات، ومفرق الجماعات ومشتت البنين والبنات؟
هل تذكرت يوماً تكون فيه من أهل القبور؟
هل تذكرت مفارقة الأهل والجيران، والأموال والأصحاب والأوطان؟
هل تذكرت ضيق القبور وظلمتها؟
هل تذكرت وحشتها وكربتها؟
هل تذكرت عذاب القبر وألوانه؟
هل تذكرت حياته وعقاربه وديدانه؟
هل تذكرت الشجاع الأقرع وعظم شأنه؟
هل تذكرت ضرب الفاجر بمرزبة من حديد مع الإهانة؟
هل تذكرت سؤال الملكين منكر ونكير؟
هل تذكرت أتوفق للصواب من الجواب، أم يقال لك: لا دريت ولا تليت؟
هل تذكرت نعيم القبر وروحه وريحانه؟
أخي أعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، وللصواب إخلاصاً لا رياء. وكان عون بن عبد الله يقول في بكائه وذكر خطيئته: ويح نفسي، بأي شيء لم أعص ربي؟
ويحي ! إنما عصيتُه بنعمته عندي.
ويحي ! من خطيئة ذهبت شهوتُها، وبقيت تبعتُها عندي.
ويحي ! كيف أنسى الموت ولا ينساني؟
ويحي ! إن حُجبت يوم القيامة عن ربي.
ويحي ! كيف أغفل ولا يغفل عني؟
أم كيف تُهنئُي معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟ أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي؟
أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟
أم كيف أجمعُ بها وفي غيرها قراري؟
أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل منها يكفيني؟
أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟
أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي؟
أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني؟
فيا أيها الشاب: إياك أن تسوف بالتوبة وتتكل على العفو والمغفرة وإياك أن تقول: ما زلت في شبابي وسوف أتوب إذا تقدمت بي السن، فالموت لا يعرف شيخاً ولا شاباً، ولا رجلاً ولا امرأة، ولا غنياً ولا فقيراً، ولا أميراً ولا وزيراً.
قل للمفرط يستعد *** ما من ورود الموت بدُ
قد أخلق الدهر الشباب *** وما مضى لا يُستردُ
أو ما يخاف أخو المعا صي *** من له البطشُ الأشدُ
يوماً يعاين موقفاً *** فيه خطوب لا تجد
فإلام يشتغل الفتى *** في لهوه والأمر جدُ
أبداً مواعيد الزمان *** لأهله تعب وكدُ
يا من يؤمل أن يقيم *** به وحادي الموت يحدُ
وتروح داعية المنون *** على مؤملها وتغدُ
يختال في ثوب النعيم *** ودونه قبر ولحدُ
والعمر يقصرُ كل يوم *** ثم في الآمال مدُ
أيقظنا الله وإياكم من هذه الرقدة، وذكرنا الموت وما يأتي بعده، وألهمنا شكره على النعم وحمده، إنه كريم لا يرد عبده.
وقبل أن أختم كلامي معك، كأنني بك تتساءل، ما هو الثمن الذي أرجوه وما هو جزائي إن تبت إلى الله وأنبت؟ فأقول لك والثمن الجنة...؟
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : { قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر }. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : { لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها }.
وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله يقول: { موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها }.
قال ابن القيم: وكيف يقدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه.
فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران.
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن.
وإن سألت عن لاطها فهو المسك الأذفر.
وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب.
وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة، لا من الحطب والخشب.
وإن سألت عن ثمرها فأمثال القلال، ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألت عن أنهارها، فأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون.
وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور.
وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإن سألت عن سعة أبوابها، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام.
وإن سألت عن ظلها، ففيها شجرة واحدة، يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها.
وإن سألت عن سعتها، فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي عام.
وإن سألت عن خيامها وقبابها، فالخيمة الواحدة من درة مجوفة لها ستون ميلاً من تلك الخيام.
وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب.
وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم فهن الكواعب الأتراب، اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور، وللرقة واللطافة ما دارت عليه الخصور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق بين ثناياها إذا ابتسمت.
وإن سألت عن السن فأتراب في أعدل سن الشباب.
وإن سألت عن الحسن فهل رأيت الشمس والقمر؟ فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها، أضاءت الجنة من ضحكتها. إن غنت فيا لذة الأبصار والأسماع، وإن آنست وأمتعت فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع، وإن قبلت فلا شيء أشهى من التقبيل، وإن نولت فلا ألذ ولا أطيب من ذلك التنويل.
فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
وفقنا الله وإياكم للتوبة وجعلنا من عباده التوابين إنه سميع مجيب...