سمات عامة في التربية الغربية:
وهكذا فإننا إذا تأملنا المذاهب التربوية الثلاثة تبين لنا بوضوح انطباعُها بطابع النظرة الأحادية الجانب، التي تركز على بُعد واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى؛ فقد لمسنا كيف يضخم المذهب المثالي جانب الروح على جانب الجسد بكل ثقله، مستهيناً بما يستشعر ذلك الجسد من حاجات، عازلاً الإنسان عما تموج به الحياة، مغرقاً إياه في صور وخيالات غريبة لا قِبَلَ له بها، مخرجاً إياه من فطرته التي فطره الله (تعالى) عليها، وهذا في مقابل المذهب الطبيعي الذي يفعل العكس تماماً؛ فليس هناك في ظل ذلك المذهب مُثُلٌ عليا يتجه إليها، غير الانسياق وراء ما تمليه عليه الطبيعة، ولا مكانٌ مرموق لقوى العقل وضوابط الأخلاق، والثغراتُ نفسها تشكو منها النظرية التربوية البراجماتية؛ إذ إن إعداد الإنسان عندها هو الإعداد لحياة هادرة يتقلب الإنسان بعنف وراء أمواجها المتلاطمة دون تحديد لقواعد ثابتة يتم الرجوع إليها وللكمال الذي يأوي إليه.
إن نتيجة مهمة يمكن استخلاصها مما سبق، وهي أن تضارب الأفكار والمواقف الذي تعبر عنه النظريات الغربية، هو برهان ساطع على أن المنطلقات التي تصدر عنها تلك النظريات خالية تماماً من اليقين العلمي، وإلا لانتهت إلى قناعات مشتركة حول قضايا الإنسان والمجتمع، فهذا التخبط الذي تعاني منه هذه النظريات وغيرها نابع من الجهل بحقيقة الوجود وحقيقة الإنسان محور الحياة فيه، وهذا ما يؤكد عليه الدكتور (ألكسيس كاريل) في قوله: (إننا لا نفهم الإنسان ككل.. إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة. من سمات النظرية التربوية الإسلامية: إن التصور الإسلامي في التربية تجاوز ذلك التخبط الرهيب، الذي ظل يلاحق النظريات الغربية؛ لأنه ينطلق من أسس وأصول محكمة وفهم شامل حول الكون والإنسان والمجتمع بني على وحي ممن خلق الإنسان ويعلم حقيقته وجوهره : "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ "[الملك :14] ، وهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة، بمكوناته كلها، دون إغفال إحداها لصالح الأخرى؛ لأن مطبقيه يعلمون أن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل في الكيان البشري وانعدام التوازن فيه، وبالتالي إفلات الزمام تماماً من قبضة المربين الذين يتولون تنشئة الإنسان، وتعرّض هذا الأخير للدمار والانتكاس. فالتربية الإسلامية التي تنبثق من الإسلام ونظرته الشاملة في الكون والإنسان والمجتمع، تميز في المعرفة بين مجال يرتاض فيه الإنسان بطاقاته العقلية، ويصل فيه إلى اكتشاف حقائق وأسرار، وهو مجال الطبيعة الفسيح الذي لا قِبَلَ للإنسان بمعرفته إلا عن طريق الوحي الإلهي: أي عن طريق الدين الصحيح، وهو مجال (ما وراء الطبيعة)، والكيان البشري بتعقيده الهائل وتفاعل عناصره جزء من ذلك المجال، وبتعبير واضح: مجال تنظيم حيـاة الإنسان وعلاقاته بالآخرين في دوائرها المختلفـة وكيفية معاملته لذاته.
فإصرار الفكر الغربي على أن بوسعه معرفة كل شيء عن الإنسان هو الذي قاده إلى الطريق المسدود، والأزمة الخانقة التي تضرب الغرب بعنف شديد. العلوم الكونية بين ذانك المنهجين :
وتقودنا المسألة الآنفة الذكر إلى البحث عن الدافع الذي كرس لدى الإنسان الغربي هذا الاعتداد بالعقل. ومن الميسور لنا أن نقول بأن التقدم العلمي الذي أحرزه الإنسان الغربي أدى إلى إصابته بالغرور والانبهار؛ فاعتقد ـ خطأً ـ أن العلم هو الآلة السحرية التي لا يند عنها شيء، ولا يعزب عنها مثقال ذرة، وخيل إليه من فرط إعجابه باكتشافات العلم أن هذا الأخير أصبح بديلاً عن الدين في تحقيق السعادة للإنسان. أما التربية الإسلامية، فإنها تنظر إلى العلوم الكونية على أنها مجال لتعميق الإيمان بالخالق (عز وجل)؛ إذ إن المعرفة ليست معزولة عن الحكمة، بل هي على العكس من ذلك المحراب الذي يقود إليها، قال (تعالى): ((إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ)) [فاطر: 28]، وقال (تعالى) : ((إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ (آل عمران،190) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) ، (آل عمران، 190-191). وإننا بنظرة عميقة إلى كلمة الشهادة التي هي إعلان لدخول الإنسان في الإسلام نتبين حقيقتين عظيمتين في الوقت ذاته: الحقيقة الأولى: هي مسؤولية الإنسان الفردية في فعل الشهادة، والحقيقة الثانية : تعني أن تعبيري عن الشهادة بقولي : (أشهد أن لا إله إلا الله) (لا يحدث في فراغ أو في انعزال عن عالم الطبيعة، وإنما يحدث في عالم الطبيعة وبه، فالمعرفة المطلوبة في الشهادة لا تحدث في الإنسان وحده كعارف، وإنما تحدث فيه بوجود موضوع المعرفة أو وجود عالم المخلوقات بما فيها هو نفسه كأحدها. أهداف التربية بين المنهجين: إن الخصائص المذكورة التي ميزت النظريات الغربية في التربية، ومن بينها وقوع الفصام النكد بينها وبين الدين، وبالتالي التعويل على العقل وتأليه العلم، كل ذلك أوقع التربية الغربية في الذاتية والهوى ومحدودية الأفق في تحديد الأهداف الكبرى التي تتوخاها، ورغم الشوط الذي قطعته العلوم الإنسانية في الغرب، فإنها لم ترتق بتلك الأهداف (فعلى الصعيد الفردي دعت هذه العلوم الإنسان إلى الاعتماد على الذات وتقويتها؛ لأنها منبع القيم المستقل والمرجع الأخير لوجود الإنسان ووعيه بوجوده، وأصبحت الحرية في نظر الغرب متساوية مع الممارسة التي لا تخضع لمبدأ أو قانـون، بل تصدر عن الإرادة الشخصية مجردة)، وقد تأثرت نظرية التربية بهذه النزعة إلى التمركز حول الذات؛ فأصبحت ترى غايتها في إحداث التجانس في الرغبات بين أفراد المجتمع الواحد، أما إذا تجانست فلا سؤال ولا استفهام بعد ذلك في خيرها أو شرها. لقد استقرت التربيـة الغربية على أن الهدف الأسمى (للتربية) الذي ينبغي العمل على تحقيقـه هـو إعـداد المواطن الصالح، وشتان بين هذا الهدف الضيق والهدف الرفيع الذي ترمي إليه التربية الإسلامية، وهو إعداد الإنسان الصالح (الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مواطن في هذه البقعة من الأرض أو في ذلك المكان؛ وذلك معنى أشمل ـ ولا شك ـ من كل مفهوم للتربية عند غير المسلمين. من إيجابيات النظريات التربوية الغربية : وإذا كانت النظريات الغربية ـ موضوع النقاش ـ تشكو من تلك العيوب والثغرات التي رأيناها، وهي عيوب وثغرات مترتبة حتماً عن طبيعة الأسس الفلسفية التي يشيد عليها أعلام الفكر والتربيـة في الغرب أبنيتهم ونظرياتهم التربوية، فإن الإطار العام لتلك النظريات قد اشتمل على بعض الاجتهادات في مجال التنظير والتطبيق التربويين، التي مكنت الفكر التربوي الحديث من تجاوز بعض العناصر المثبطة؛ فاهتداء التربية الحديثة في شخص أحد أقطابها المرموقـين (روسو) إلى أهمية وضرورة تحرير الطفل من عوائـق الآباء والمجتمع، وتحذير (البراجماتية) ـ مستفيدة في ذلك من تراث(روسو) من سلب الطفل فاعليته وقصر نشاطه على تقبل آراء المعلم ومتابعـة أفكـاره، بـدل إشراكـه بطريقة ديمقراطيـة في التفكير والبحث والتمحيص ليصـل إلى الحقائق بنفسه، كل ذلك شكّلَ مكاسب في إطار الفكر التربـوي الغربي أزاحت مجموعة من العوائق التي كبلت الفعل التربوي مما تسبب عنه ارتقاء في المردود التربوي وتحسن في وتيرته.
ملحوظة مهمة : ومن خلال بحث هذا الموضوع أرى ـ من الأمانة العلمية والإخلاص للحق ـ أن نورد ما انتهى إليه أحد الباحثين من أن هذا الذي أصبحت تنادي به التربية الحديثة من ضرورة تخفيف (آثار البيئـة وآثار الآباء على نمو الأطفال من ناحية، وتنظيم البيئة التي تتطابق أكثر من غيرها مع خير نمو لنموهم العقلي والخلقي من ناحية أخرى، إن هو إلا تعبير عما جاء به الإسلام ممثلاً في مفهوم الفطرة الواردة في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه...إن التأمل في واقع الإنسان يدلنا على قابليته للتطبـع بعقائد البيئـة التي تكتنفه في مراحله الأولى؛ مما يترتب عنه تشكّل عقليته ونظرته للحياة في قوالبها، كما يدلنا على حرص الآباء على أن يكون أبناؤهم على غرار النماذج المرضية عندهم المألوفة لديهم. في خضم هذا الوضع يعلن الإسلام عن مبدأ الفطرة التي تعني أن مصير الولد في عقيدته وأخلاقه كامن فيه وليس في المجتمع الذي يولد فيه و (هذا التركيز على ما أوجد في خلق الإنسان من قدرات ترشحه لحب الحق وللتوجه نحوه وبه، نَقَلَ مهمة التربية نقلاً جذرياً وغيّـر غاياتها تغييراً أساساً، فبعد أن كانت مهمتها نَقْلَ ما توارثه الآباء والمجتمع صارت مهمتها توفير ما يلاءم فطرة الإنسان من نمو عقلي وخلقي ووجداني، وصارت غايتها كمال هذه الفطرة، وبهذا الانتقال ارتقت التربية من ضيق وتعدد نسبية المجتمعات المختلفة إلى تربية عالمية ترتبط بحقيقة الإنسان أينما كان وفي أي عصر كان.
خلاصة واستنتاجات: يَتَبَينُ من المعطيات السابقة أن في الإسلام تصوراً يمتلك مقياساً دقيقاً يُعْرَض عليه ما توصل إليه التراث الإنساني في المجال التربوي، يقبل منه ما يقبل مما هو داخل في نسيج الحقائـق المعبرة عن واقع الإنسان، ويرفض منه ما يرفض مما لا تتوفر فيه شروط الصدق وموافقـة قوانين الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ ومن هذا المنطلق : فإن التصور الإسلامي يتبنى بكل ثقة ما تتوصل إليه الإنسانية من كشوف متميزة ومناسبة في عالم التربية بما لا يناقض أسسها ومنطلقاتها معتبراً إياها جزءاً من نسيجها الشامل على اعتبار أن في ذلك النسيج ما يدل دلالة واضحة عليها، ويهدي إليها.